Back Home (To the main page)

Souvenirs and books from Lebanon
 

Sections

About us

Contact us

 
 
SearchFAQMemberlistUsergroupsLog in
Christianity and Islam in Lebanon - Youakim Moubarac

 

 
Reply to topic     discoverlebanon.com Forum Index » لبنان ... باللغة العربية
  View previous topic
View next topic
Christianity and Islam in Lebanon - Youakim Moubarac
Author Message
admin
Site Admin


Joined: 09 Mar 2007
Posts: 529
Location: Jbeil Byblos

Post Christianity and Islam in Lebanon - Youakim Moubarac Reply with quote
عهد "الندوة اللبنانية" - خمسون سنة من المحاضرة

المسيحية والاسلام في لبنان - أضواء وتأملات - يواكيم مبارك


ألقيت في 31 ايار في سنة 1965، ختاما ً لسلسلة "المسيحية والاسلام في لبنان". نشرت في محاضرات الندوة، السنة التاسعة عشرة، 1965، النشرة 8- 11.

أصحاب السيادة،
سيداتي، سادتي،

في مستهل الموضوع الذي يشاء تلطفكم أن تجلوا اليه معي في هذه الأمسية، أود من صميم القلب أن أتوقف هنيهة عند الشخص الذي حملنا معا ً اليه. ان لصداقة مدير "الندوة"، الاستاذ ميشال أسمر، الفضل في أن أقف لأول مرة في لبنان، متكلما ً على موضوع أستطيع القول انني كرست له أجمل سنوات حياتي. كان يسيرا ً جدا ً على الأستاذ أسمر، ولربما كان يكون أكثر واقعية، أن يعهد بهذه المهمة الى لبناني من لبنان، غير أنه أحب أن يستدعي لبنانيا ً من باريس، فحقق عندي هكذا رغبة جد خفية بحيث أنني ما كنت لأجرؤ على البوح بها حتى لنفسي. لا شك انه كان يفتش أيضا ً عن شهادة تستطيع، الى كونها لبنانية، أن تتجرد، في الموقف نفسه، عن ملابسات تعقد القضية التي نتعرض لها وتثقل جوانبها.

واذ نخوض ميدانا ً ألفناه جميعا ً، ولكن ألفناه الى درجة بتنا نتعرض فيها أحيانا ً لأن نطمئن الى الجانب الذي اخترناه، سنحاول أن نكون عن الموضوع في مجمله فكرة تكون أكثر انطباقا ً عليه، وأن ندفع بحثنا خاصة الى ابعد من الواقع الراهن.

في هذه المحاضرة سأتكلم، بالضرورة، على الماضي. فالماضي هو أساس كل شيء، وخاصة في لبنان، على ما يعلمنا اياه كبير من أسرة "الندوة" في سلسلة تآليف تعرض للماضي بدأت حلقاتها تظهر تباعا ً. ثم ان كل نظرة لا تسلط أنوارها على الحاضر تبدو هنا، أكثر من أي مكان آخر، مجردة من الواقعية. غير أن أفضل ما في جهدنا سيكون، على غرار نهج "مواقف واقتراحات" المتبع في دراسات اخرى، دعوة للتطلع الى المستقبل ولتبين المؤسسات اللبنانية التي يجب خلقها أو تجديدها من أجل تحاور اسلامي – مسيحي عتيد.

أبدأ، اذا سمحتم، انطلاقا ً من مقال لحسن صعب، نشرته صحيفة الشرق الأوسط في وشنطن، ثم نقلته بالفرنسية جريدة الأوريان في بيروت. ففيما يقترح حسن صعب نظرة تاريخية عامة على مجمل العلائق الاسلامية – المسيحية، ينوه بالاعتبار التالي: بعد أن هدد الاسلام المسيحية طوال أجيال ثم خضع لها خلال فترة الاستعمار، حان الوقت الذي أصبح فيه كل من الاسلام والمسيحية حرا ً تجاه الآخر. لقد حان الوقت الذي أصبح فيه الاسلام والمسيحية مستعدين، في هذا الجو من الحرية، للدخول في حوار مجد ومفيد. وبعد أن تقاتلا وتجاهلا بالرغم من اتصالات قاسرة وأحيانا ً خلاقة، فقد حان أخيرا ً الوقت لهما كي يتعارفا ويعملا معا ً، اذا أمكن، من أجل توازن للعالم جديد.

واذا ما قصرنا رؤيتنا على المتوسط، وجدنا، كما يقول حسن صعب مصيبا ً، أن المسيحية تحتل الآن الشاطىء الشمالي منه بينما استقر الاسلام، منذ استقلال الجزائر، وتوطد على الشاطىء الجنوبي، بيد أن ثمة ملاحظة طريفة تفرض نفسها: فعندما يتبادل الاسلام والمسيحية النظرات السلمية ويتأهبان للتصافح فوق الخضم البحري الذي يجمعهما أكثر مما يفرق بينهما، نرى أن هذه النتيجة قد تحققت في لبنان وأن ثمة شيئا ً أحسن من التلاقي يحدث فيه بينهما هو الاندماج المتآلف النامي.

ان لبنان ليبدو عند ذاك وكأنه الحصيلة التنبؤية لتاريخ طويل من القرون وبادرة التآلف لهذه الشعوب المتوسطية وقد عركها تمخض العلاقات والنزاعات بين المسلمين والمسيحيين. انه الابن البكر للتعايش السلمي بين الاسلام والمسيحية.

في لبنان اذن ينبغي أن تعانى وتعاش مجموعة العلائق الاسلامية المسيحية، لا للبنان فحسب، بل أيضا ً وخاصة لسائر العالم. وفي لبنان يجب أن يكون ذلك موضوع تفكير وتنظيم. وفي لبنان يجب أن تدرس وتسكب في قالب الواقع صيغ الحياة الطائفية المشتركة والدولية بمقدار ما هو تطور العالم الراهن لا يزال مرتكزاً الى هذين العاملين الأساسيين في تطوره الا وهما الاسلام والمسيحية.

1

لنبدأ، اذا سمحتم، بناحية النظم. فكيف يمكن، من أجل التطور العام للعلائق الاسلامية – المسيحية في العالم، أن تتطور أنظمة لبنان دولة واتحاداً فيديراليا ً يضم مختلف الفئات العرقية والطوائف الدينية، تطورا ً ينسجم هو والمجموع؟ كيف تستطيع هذه الأنظمة أن تقترح نموذجا ً مقنعا ً بذاته، لكونه برهن على صعيد هذا العالم الصغير الذي هو لبنان عن امكانية مرغوب فيها وقابلة للتحقيق في كل مكان آخر؟ وبكلمة: ما هو "الحل اللبناني" المقترح، انشاءً وتنظيما ً، لكل نوع من أنواع التعايش الاسلامي – المسيحي في أنحاء العالم؟ وكيف السبيل الى جعل هذا الحل أكثر كمالا ً؟

ولكي أبدد كل التباس وأتفادى مسبقا ً كل ما من شأنه أن يبدو من قبلي ميلا ً الى اعادة النظر في الأنظمة اللبنانية القائمة، لا بد لي من القول اني أتمسك بتلك الأنظمة تمسكي بوجودي. ذاك اني أدركت، مع أبناء جيلي، الوعي السياسي عندما حقق لبنان استقلاله في الأوضاع المعروفة، وعشت، هنا بالضبط، تلك الساعات الحرجة، فشعرت بتقدير عميق، لا للدولة كما تأسست يومذاك فحسب، بل كذلك للرجال الذين قادوا هذه المرحلة من مراحل المصير اللبناني.

ولكن ان كان الامر على ما كان، فاننا لسنا الا أرسخ حرية لا كمال العمل في الاتجاه نفسه، وعدم السماح لمعنى الحرف الضيق بأن ينتصر على الروح فتتجمد برهة في التاريخ مبدعة ويجمد معها التطور الخلاق.

على هذا الضوء، فان رأس قضايا الحوار الاسلامي المسيحي في لبنان وهدفه الأكبر، هو، كما يبدو لي، أن نتوصل، على مستوى الفكر، وبالارتكاز على الدستور الحالي، ودون أن نضطر لأن نمسه، الى التمييز تمييزا ً أكثر عدالة بين الروحاني والزمني، بين المقدس وغير المقدس، بين المدني أو السياسي والديني بغية سكبه، في ما بعد، في الأفكار والعادات وأخيرا ً في الأنظمة.

لا أقصد بذلك أن العنصر الروحي والقدسي أو الديني لا يمكن اتخاذه أساسا ً متينا ً لاقامة ديموقراطية حديثة. فنحن، اذا ما استنطقنا الديموقراطيات ذات الأسس التقليدية الأشد متانة في العالم (أفكر خاصة بهولندا وسويسرا)، لاحظنا، بالعكس، أن الطائفية، أو مرادفها العرقي أو الثقافي، تستطيع الاندماج بصورة كاملة في نظام ديموقراطي لا تصدع فيه ولا مأخذ عليه.

رغم ذلك، فما يزال صحيحا ً أن نظاما ً وافق، في فترة متقدمة من التاريخ، كل الموافقة مرحلة معينة، وأقصد التسامح والاحترام المتبادلين، هذا النظام ينبغي له أن يفسح المجال لنظام آخر. فعندما يحين الوقت ويصبح في الامكان مباشرة تعاون نشيط لا يشوبه أي تمييز بين الطوائف، اذ ذاك يبهت لون التسامح ازاء التفهم العميق، ولا يعود الاحترام المتبادل سوى جمود مضر.

واذا كان لبنان قد تمكن، في قلب الشرق الأوسط، من أن يقيم نفسه بلدا ً مثلما هي سويسرا في قلب أوروبا، أي نقطة التقاء لشعوب وملل وأديان كان ولما يزل حصنا ً منيعا ً لها، فان بامكانه أن يكون اليوم مسرحا ً لعمل أحسن، لا سيما عندما يتحول الحصن الى وطن مشرع الأبواب، وتغدو نقطة الالتقاء نقطة اشعاع.

أما أنا فاني مقتنع من كون الاسلام على أتم استعداد ليخطو هذه الخطوة الحاسمة نحو التمييز الدقيق بين الروحانيات والزمنيات. ولقد اتجه نحو ذلك على صعيد المبادىء نفسها، فبالاولى أن يتجه على صعيد التطبيقات الاختبارية. وأعتقد مخلصا ً أنه جدير ومستعد، كالمسيحية، للانسياق في تطور المجتمعات المتعددة العناصر وانشاء نظام سياسي للدول لا يكون فيه العنصر الديني عقبة في سبيل التقدم أو سببا ً لسيطرة فئة على أخرى، بل على العكس يصبح عاملا ً قويا ً من عوامل المساواة والحرية. وقصارى القول، أرى أن الاسلام مستعد لكي يحول نظام الحاضرة الاسلامية ويسمو به الى مناخ أمة اسلامية تتعايش مع غيرها من الأمم.

وبامكاني أن أبرهن أن هذا الاتجاه هو في صلب التيار الاسلامي نفسه، وفي سياق تطوره التاريخي في أصح معناه، وخاصة في طبيعة جذوره العميقة. على اني سأحتفظ، في ختام هذه المحاضرة، بمقابلة بين المسيحية والاسلام، أرجو أن ترسخنا في اعتقادنا بهذا الاتجاه الذي ذكرت، غير طامح في كل حال لان أقوم بدور الناطق المأذون له باسم العالم الاسلامي في هذا الميدان، وهو دور يعود، في سلسلة المحاضرات هذه، الى صديقنا الشيخ صبحي الصالح.

أمضي الآن في هذه المسألة الى أبعد فأقول ان الصعوبة، في نهاية الأمر، ليست في التمييز بين الروحي والزمني. ان أكثر الناس استنارة، مسلمين ومسيحيين، لعلى أتم اتفاق حول هذا الشأن. وما يمكنه أن يشغل هؤلاء المفكرين أنفسهم، فانما هو على العكس ايجاد طريقة اتحاد جديدة، بعد انجاز ذلك التمييز، تكون أفضل وسيلة للوصل بين الروحي والزمني، وذلك بحيث تجنبنا انقساما ً لا موجب له ومخاصمة لا مبرر لها تضر الجميع.

ذاك أنه من الأكيد أن الاكثرية الساحقة من اللبنانيين، على تنوع طوائفها، لا تريد اتباع الطريق العلمانية التي تسلكها اليوم بعض الأمم المسيحية سابقا ً، ولا اتباع طريق تلك الامة الاسلامية التي اختارت التشبه بالعلمانية الأوروبية تشبها ً تاما ً، وانما أمنيتهم العميقة هي أن يجدوا، في حرية المعتقدات الكاملة وفي استقلال السلطة المدنية الشرعي بالنسبة الى السلطة الدينية، مثل توافق من الداخل بين نظام الحاضرة الزمنية والنظام الروحي الذي منت به السماء من فوق. وتلك هي، على كل حال، احدى متطلبات الاسلام الأساسية وهو دين من مقومات رسالته نفسها، كما يقول لويس ماسينيون، أن تهيمن حقوق الله على المدينة الزمنية.

أما من الجانب المسيحي، فقد عرضت فكرة "الوحدة ضمن التمييز" عرضا ً ممتازا ً في مؤلفات جاك ماريتان. ولكن ثمة مؤلفات كثيرة أوحتها المسيحية في العالم الحديث، عنيت بهذه المواضيع الكبيرة؛ ومن هنا بالذات طالعتنا أصداء بهذا المعنى في مؤلفات مفكر من عندنا هو رينه حبشي، لتنطلق من الشاطىء اللبناني عبر المتوسط كله.

وأما في الجانب الاسلامي، فاذكر نظاما ً حديثا ً يخرجنا من الفلك المتوسطي. معروف أن جمهورية الباكستان قد تجهزت بدستور استوحته مباشرة، وبصورة وثيقة، من التقاليد الاسلامية. ويمكننا أن نطالع، في عدد ما زال تحت الطبع من مجلة "الدروس الاسلامية"، مقالا ً جذابا ً حول الموضوع للأستاذ محمد حميد الله. ان ما لفت نظرنا في هذا التنظيم الاسلامي الجديد، وما يذكرنا بنظام لبنان الاسلامي – المسيحي، هو انشاء نوع من "مجلس حكماء" مهمته ضمان تنفيذ الدستور والاجتهاد في تفسيره. ولا يتمتع هذا المجلس بأية صلاحية اشتراعية ولا بأية وسيلة الزامية ولكنه يملك قانونيا ً الصلاحية للادلاء برأيه بشأن حكم الأمة في الأمور الواقعية اليومية.

أعتقد أننا نستطيع أن نعمل الشيء نفسه في لبنان. وربما استطعنا القيام بعمل أحسن، اذا ما انشىء مجلس اسلامي – مسيحي لضمان احترام التمييز الشرعي ما بين الروحيات والزمنيات من جهة ولا حلال الانسجام اللازم بين الزمنيات والروحيات من جهة اخرى. ويمكن تأليف هذا المجلس من أشخاص يتصفون بالحكمة والنية الحسنة ويجمع عليهم الرأي العام المشترك عند المسيحيين والمسلمين. فاذا تسنى لهم أن يتمتعوا بثقة الحكام السياسيين والرؤساء الدينيين، وكانت لهم الصلاحية ليعربوا لكل من الطرفين عن شعور الطرف الآخر، ندرك بسهولة، اذ ذاك، أي دور مفيد تستطيع أن تقوم به مثل هذه المؤسسة. بالاضافة اذن الى انشاء مجلس ملي لكلتا الفئتين، يصار الى انشاء مجلس ملي مشترك تحت شعار الاتفاق الودي والتعاون الايجابي يكون من علامات الأزمنة الجديدة ويمثل أرفع مقام معنوي، كما يكون مرجعا ً أعلى للأمة عندما تصطدم بضميرها، فيطلعها، هكذا، الاسلام والمسيحية معا ً على الطريق السوي.

2

اذا كنت لا انكب بسرعة على البحث في التنظيمات التشريعية بل حاولت أن أبين بما فيه الكفاية أهمية التقدم الانشائي التنظيمي الذي ينتظر التعايش الاسلامي – المسيحي في لبنان، تسمحون لي الآن بالانتقال الى صعيد ثان. وهكذا اذا قصرنا من اهتمامنا الذي كان يشمل حتى الآن مجمل الأمة، تسنى لنا أن نتقصى عن كثب متطلباتنا المشتركة فنجدد دور المفكرين اللبنانيين، المسلمين منهم والمسيحيين.

سأقول ذلك بصورة مختصرة، وبصيغة اكثر اختصارا ً توافق رجال الفكر ممن يدعون تكوين النخبة: ان العمل الكبير الذي ينتظر المسيحيين والمسلمين في لبنان على صعيد الفكر والحوار هو عمل يهم العقل، ويهم التاريخ.

يهم العقل، وهذا ليس بجديد، ما دام أن مغامرة الفلسفة العربية التي هي ثمرة تعاون فريد بين المسيحيين والمسلمين في العصور الوسطى، قد انتهت كما نعرف الى الاخفاق. وبما أنه كان للاسلام في هذا العمل الفلسفي الحصة الأهم، اذ ان مسيحيي الشرق عملوا في ميدان النقل وذلك بترجمتهم المؤلفات اليونانية الى السريانية ثم الى العربية، كما برهنت ذلك دراسات خليل الجر الرائعة، فاني لن أسبب استغرابا ً وكدرا ً لأي شخص عندما أقول ان مسؤولية ذبول الفكر الفلسفي في الشرق تقع، أساسا ً، على عاتق كاتب اسلامي كبير، على ذاك الذي سمي حجة الاسلام. لست من الذين تستهويهم الاتهامات الجدلية، لا سيما عندما يتناول الامر رجلا ً يعترف العالم كله بفضله وتستثير مؤلفاته أبحاثا ً قيمة حولها في بلدنا. ولكن من الأكيد أن الغزالي، برغم ما تضمنته مؤلفاته من غنى، لم يحل مشكل الفكر الديني الأساسي الذي هو مشكل استقلال العقل استقلالا ً كاملا ً. لقد ادعى، بعكس ذلك، تخزية "الفلسفة" في "تهافته"، وانتهال ينابيع أخرى غير ينبوع العقل بينما ينبغي، عندما نهزأ بالفلسفة كما يقول باسكال، الا نهمل حسن التفلسف.

وليس في نيتي تكدير أصدقائي المسلمين عندما أعتبر أن المدرسة الجديدة الناهدة الى الاصلاح، والتي تضم بين جهابذتها لبنانيا ً لامعا ً هو السيد رشيد رضا، لم توجد هي أيضا ً حلا ً مرضيا ً لمشكلة العقل هذه، كما أنها لم تعرف أن تحل هذه القوة الأساسية السيدة في الانسان المكان الحر الكامل الذي هو مكانها في خدمة العلوم الدينية. فاذا ما نحن استثنينا بعض التأكيدات المبدئية المتعلقة بعدم التناقض بين الدين والعقل، وبين الايمان والعلم، تلك التأكيدات الواردة في مجموعة المبررات الدينية القديمة، فاننا لا نرى أين ينشأ وكيف يقوم تنظيم جديد حقيقي لعلوم الدين على هيكل عقلي يسند ذاته بذاته، ويبقى متينا ً. وما عدا دراسات محمد اقبال في باكستان وعلي عبد الرزاق في مصر، فليس هناك أية محاولة مبتكرة في هذا الاتجاه.

ومع ذلك، فان تاريخ الفكر الاسلامي يوفر جميع العناصر اللازمة لهذا العمل الهام. واذا كانت الفلسفة قد ذبلت زهرتها في الشرق العربي بعد الغزالي، فلا أحد يجهل انطلاقها وازدهارها في الغرب الاسلامي، وكيف أنها لامست الغرب المسيحي وأنعشته، منهضة اياه، الى حد ما، من جاهليته في العصور الوسطى الاولى.

ولا يخطر لي هنا ابن رشد وحده فحسب، بل ابن خلدون أيضا ً من بعده. وهكذا، مع بقائنا في نطاق العقل، نصل الى التاريخ. لذا كنت أفكر بهذا المعلم عندما جعلت المهمة الأساسية للمفكرين اللبنانيين، من مسيحيين ومسلمين، بعث العقل والتاريخ المتساندين.

يجمل بالمرء أن يكون أقل تكلما ً على أصدقائه منه على نفسه، اذ من المزعج أن يبدو وكأنه يسلمهم للدعاوة. ولكن عندما يكون عددهم قليلا ً، كما هي الحال عند محدثكم، فلا يخشى تجاوز الحد معهم. لذا أسمح لنفسي بأن أذكر على سبيل المثال الأطروحة التي يعدها الآن في السربون أحد مواطنينا الشباب، ناصيف نصار، وقد خصها بابن خلدون. ومما يضاعف مسرتي عندما أذكر هذا العمل الجميل، هو أنه يستخلص حدثين، لهما معنى كبير: أولهما أن عودة هذا العالم الاجتماعي الكبير والمؤرخ المغربي الى كسب أذهان الناس وانتباههم في أفريقيا الشمالية اليوم، من أبرز الدلائل على يقظة هذه البلدان. غير أن هذا الأمر لا ينسيني أمرا ً آخر، كان في حينه وعلى مستواه بلا شك أحد دلائل التجدد في العالم العربي كله. ما زلنا نذكر، وغالبا ً ما نذكر، الأثر القوي، وأكاد أقول الفضيحة، اللذين أثارهما طه حسين الشاب بمؤلفه عن الشعر الجاهلي. ولكننا قد لا نتذكر كثيرا ً أن أطروحته التي قدمها في السربون قد عالج فيها فلسفة ابن خلدون الاجتماعية.

هذا، ولا يتكدرن أصدقاؤنا الافريقيون الشماليون والمصريون ان قلت أن ليس في مصر فقط ولا في أفريقيا الشمالية وحدها ينبغي ويمكن بذل هذا الجهد الكبير للفلسفة وللنقد التاريخي الذي نجعله كالمهمة الأساسية للحوار الاسلامي – المسيحي. اننا نؤكد بكل صدق واخلاص، وبدون أي تطرف في العصبية الوطنية ولا ادعاء تجريد الآخرين من هذا العمل، أن هذا الحوار يجب أن يجد في لبنان أبرز تعابيره.

ان هذه الرسالة السامية تعود حقا ً للشباب اللبناني، وان لقاء العقول في هذا الحقل وتجمع الانتاج الفكري يجب أن يتم في داخل الجامعة اللبنانية.

وأقول هذا دونما أي قصد في النيل من الدور الكبير الذي سبق أن قامت به، ولما تزل، المؤسسات الجامعية الكبرى التي أنشأها في لبنان أجانب اعتبروا هذا البلد بلدهم الخاص. ومن ينحو هذا النحو انما ينم عن نكرانه للجميل، وعن قصر نظره وفكره تجاه رجال العلم هؤلاء، الذين نعتبرهم كمواطنين. وانه، بعكس ذلك، لمن دواعي الفخر لتلك المؤسسات العريقة التي أنشأوها وأحيوها أن تكون ضمنت مشاركة الخيرين من أبناء وطننا واستعجلت اليوم الذي يتاح فيه أخيرا ً لشبيبة لبنانية تنتمي الى جميع الأسر الروحية في بلد ملتئم مع نفسه، أن تجد النطاق الطبيعي لالتقائها وتكوينها في قلب الجامعة الوطنية. لقد حان الوقت كي تنشأ في قلب هذه الجامعة معاهد حقيقية للبحث، تكون بمثابة الاطارات الصالحة لعمل وضعناه تحت شعار الفكر الفلسفي والنقد التاريخي.

ولكن، هل نكون مغالين اذا ما طالبنا بأن ينشأ في عداد هذه المعاهد، وعلى غرار جامعات العالم المتحررة الكبرى (أفكر بهارفرد مع مدرستها الدينية، وبستراسبورغ مع كليتيها اللاهوتيتين البروتستانتية والكاثوليكية، وبالسربون مع معهدها للدروس العليا والقسم المختص بالعلوم الدينية) - هل نكون مغالين اذا طالبنا بأن تنشأ كليات خاصة بالعلوم الدينية، الاسلامية والمسيحية، وأن تدمج كليا ً في التعليم اللبناني العالي؟ أعتقد أن الجامعة اللبنانية لا تتم رسالتها الخاصة الا يوم تنشىء مثل هذه المعاهد فتؤالف اذ ذاك بين ما يعمله اللبنانيون، على اختلاف طوائفهم، وما يعمله معلموهم الأجانب في هذا الميدان، وتحقق هكذا في لبنان هذه الرسالة الضرورية، رسالة الالتقاء والمقابلة النزيهة بين المسيحيين والمسلمين، على صعيد ايمان كل منهم.

على انه لا بد لي من القول انني لا أتوقع نشأة هذا العمل في مستقبل قريب. فأنا بعكس ما اقترحت لمستقبل لبنان على صعيد النظم من امكان انشاء مجلس اسلامي – مسيحي شكل المطلب الأول في هذا الحديث، وبعكس ما اقترحته الساعة، وهو المطلب الثاني الأساسي، كمهمة معجلة للجامعة اللبنانية على صعيد التاريخ والعقل، - بعكس ذلك أقول اني لا أتوقع قيام الحوار والتعاون على صعيد العلوم الدينية الصرف الا في مرحلة لاحقة. ذاك أن عمل المقابلة اللاهوتية البحت لن يكون ممكن الحصول وجديرا ً باعطاء نتائج ايجابية الا عندما يفرغ من ذلك العمل التمهيدي المذكور الذي يتطلب نفسا ً طويلا ً. وقد لا يقبل مسيحيو هذا البلد ومسلموه اخضاع ينابيعهم الموحاة وتقاليدهم العقائدية لمقاييس العقل والنقد التاريخي حسب أدق مقتضيات العلم الحديث، ولن يرضوا أن يثيروا الحوار الكبير الأخير الذي ينتظرهم الا بعد أن يكونوا قد قبلوا التمرس معا ً بالطرائق الفلسفية والنقدية الصارمة.

بانتظار ذلك، كثيرة هي الأمور التي تحتاج الى العناية حتى في الحقل الديني الصرف. ثمة مطلب أساسي في هذا المجال أرجىء عرضه الى ما بعد، غير اني حريص أن أعرض على حسن انتباهكم مطلبين ثانويين يمكن تحقيقهما دون انتظار.

أتمنى شخصيا ً - واني لمقتنع بأن العدد الأكبر منكم لا يناوئون هذه الأمنية، ريثما تنشأ الكلية المزدوجة للعلوم الدينية الاسلامية والمسيحية، أن يحتل أستاذ مسلم منبرا ً مختصا ً بالمسيحية في الجامعة اللبنانية وأن يحتل، مقابل ذلك، أستاذ مسيحي المنبر المختص بالأنظمة الاسلامية. ان هذا العمل لا يكون دليلا ً على النية الحسنة المتبادلة فحسب، بل يكون أيضا ً شهادة قاطعة على الاهتمام العميق الايجابي الذي يكنه للآخر كل قسم من الأمة في شخص الباحثين من أفراده المشهودين.

ومطلبي الثانوي الآخر ينحو الاتجاه عينه، ويرمي في الواقع الى أن يكون لهذا التعليم على المستوى الجامعي صداه الأبعد بين صفوف الشباب وطبقات الشعب. اقترح اذن - مع التمني في أن يجد اقتراحي أذنين صاغيتين وقلمين سيالين - أن يصار الى وضع بيان مشترك عن المسيحية والاسلام يسهم في صياغته مسيحي ومسلم، ثم ينشر على أوسع مدى في سواد الشعب وفي المدارس وبين أوساط النخبة المثقفة التي غالبا ً ما تكون في هذا الحقل على مستوى الآخرين.

اني على يقين من أن هذا العمل يسد فراغا ً كبيرا ً ويؤدي خدمة ضرورية. يدلي حسن صعب في الدراسة التي ذكرتها سابقا ً بهذه الملاحظة التي يمكن التثبت من صحتها عندنا كل يوم: "ان مسيحيا ً في لبنان لأكثر اطلاعا ً على ايمان أي كاثوليكي في فرنسا منه على ايمان مسلم يسكن البناية نفسها التي يسكنها هو، وكذلك ان أي مسلم في بيروت يعرف المسلم الاندونيسي أكثر من معرفته للمسيحي الذي يقطن مسكناً مواجها ً لمسكنه".

فواقع الأمر هذا الذي يشرحه مجرى الزمان، لم يبق في الامكان تبريره في الوقت الحاضر، وقد آن الأوان لكي يوضع بيان موضوعي منطو على الميزات الأدبية الخاصة يسهم في هذه المعرفة المشتركة بين اللبنانيين، المسيحيين منهم والمسلمين.

3

هذا البيان ينبغي بطبيعة الحال أن يكتب باللغة العربية، مما يحملني الى الميدان الثالث الكبير للحوار بين المسلمين والمسيحيين، والذي بقي علي أن أسبر واياكم غوره: الا وهو ميدان اللغة العربية.

اني لمقتنع من كوني لن أحمل أيا ً منكم على الاستغراب عندما أولي مستقبل اللغة العربية أهمية توازي أهمية مستقبل المؤسسات في لبنان ومستقبل الفكر العقلاني والنقد التاريخي. واني لمقتنع كذلك بأن أحدا ً منكم لن يستغرب وضعي مستقبل اللغة في الدرجة الثالثة، وهي ليست آخر الدرجات بل أرفعها.

لا بد لي من الجهر بان ايماني برسالة اللغة العربية يؤلف جزءا ً من ايماني الصرف، وبأنني، كمسيحي، لأشعر بأن كل عرق في روحي الدينية مرتبط بلغة الوحي الاسلامي وطقوسه، تلك اللغة التي كانت لغة الحيرة وغسان ونجران قبل أن تصبح لغة أشرف العاملين من المسيحيين على النهضة العربية. معنى ذلك انني أجهر في الوقت نفسه بتعلقي بايمان الاسلام دون المشاركة فيه، وبتعلقي بالتعابير الاصيلة لروحه الدينية.

ومعنى ذلك أيضا ً الجهر بأن حقل اللغة العربية ليس أرفع حقل للحوار الاسلامي المسيحي فحسب، بل انه هو هذا الحوار نفسه، بمعناه الجوهري. فاللغة العربية هي الوسيلة الممتازة للمسيحيين والمسلمين لا ليتفاهموا بها فحسب، بل لينصهروا ويتداخلوا في خضمها. ففي اللغة العربية يتوافر للمسلمين والمسيحيين، على اعتناقهم دينا ً مختلفا ً، يتوافر لهم على مستوى ايمانهم الفكر عينه والروح عينها، ويهتزون نوعا ً ما على نغم للقلب واحد كما برهنت ذلك مؤخرا ً ترجمتان اسلاميتان ومسيحيتان لسفر المزامير وضع احداهما عفيف عسيران بالاشتراك مع محمود مرحبا وطبعتها المطبعة الكاثوليكية في بيروت، ووضع الترجمة الثانية محمد الصادق حسين بالاشتراك مع الآباء الدومينيكيين في القاهرة وأصدرتها دار السلام ومطابع دار المعارف بين القاهرة وبيروت.

واذ أكن للغة العربية القدر الذي ذكرت، لا بد لي من أن أعترف، من جهة أخرى، بأنني لم استعملها قط، أو أكاد، في العمل اليومي الخطابي أو الكتابي. فقد صرفتني ظروف، هي لحمة وجودي كما تنسجه لكل منا أصابع العناية الالهية، عن استعمالها فيما كانت هي مجال عنايتي اليومية، عليها وقفت أحسن جهدي في الدراسات الاسلامية والقرآنية خاصة.

ومن جهة أخرى، يجب أن أعترف بأنني، ابان السنوات الخمس عشرة أو العشرين التي أمضيتها في البحوث الاسلامية العلمية، قد غيرت موقفي من مصير اللغة العربية. وسأبين للذين يهمهم الأمر، في ملاحظة ببليوغرافية توضيحية تضاف الى الطبعة التي تنوي "الندوة" اصدارها لهذه المحاضرة في سلسلة محاضراتها، مراجع لا تتناول تحولاتي الخاصة فحسب في هذا الميدان، بل أيضا ً ولا سيما تحولات معلمي لويس ماسينيون. واذا كان ماسينيون قد ثبت سريعا ً في تعلقه المكين باللغة الفصحى وبرهن هذا التعلق خاصة في حقل الكتابة العربية، كما أشاد محمد الفاسي بذلك بعد وفاة هذا المستشرق الكبير، فينبغي لي القول اني أشاطر كل المشاطرة هذا التعلق بمقدار ما أنظر الى تاريخ الثقافة العربية الاسلامية وحاضرها، في قممها. وبالعكس، فاذا ما عنيت ولو قليلا ً، ولا سيما في الوقت الحاضر، بالمقتضيات الملحة التي تفرضها ثقافة عربية موجهة للشعب مجاوزة نطاق النخبة الشديدة الغيرة على امتيازاتها والمغلقة اختياريا ً على نفسها في ادغال الصعوبات اللغوية والصرفية والنحوية والكتابية الملتفة المتشابكة، فانه لا يسعني عندئذ الا أن أرى الى مستقبل اللغة العربية بمنظار مختلف. أجل اني أرى اليها أمينة لتقاليدها دوما ً، ولكن مسهلة في تراكيبها، مرنة في تعابيرها، مصفاة في خطها، حاملة في تيارها الظافر أفضل ما في حياة اللهجات ونضارتها.

تراني أطلت الكلام في هذا الشأن وبت أشعر بأنني توغلت في منزلق خطر.

غير انه لم يفت الأوان للعودة الى الوراء والاعراب عن كنه فكرتي حول قضية هي من الخطورة بحيث يجب أن تبقى مفتوحة للبحث طويلا ً. ولكي أعطي شهادة قاطعة عن ولاء المسيحيين للغة العربية، وهي ارثهم المشترك مع المسلمين، أقول ان اللغة العربية هي وحدها تستحق هيأة لبنانية للأبحاث والدراسات: وهكذا، بعد أن دعوت الى انشاء مجلس مشترك اسلامي – مسيحي للسهر على تطور الأنظمة في هذا البلد، وبعد أن حييت النطاق الطبيعي للتجدد الفكري ضمن جامعة لبنانية متجددة وموسعة، وهو تجدد ضروري ضرورة تطور الأنظمة من أجل حوار اسلامي – مسيحي، أقول ان أكاديمية لبنانية للغة العربية تكون وحدها على مستوى ما هو مدين به هذا البلد، في عنصريه المكونين، لهذه اللغة التي هي روح روحه وعصب لحمه.

ولن يختلط عمل هذه الاكاديمية بالعمل الذي تقوم به المؤسسات المماثلة لها في القاهرة أو دمشق، لأنه لا يسعها، نظرا ً الى موقع لبنان الخاص والى اللغات المتعددة المرتبط بها، كما أجاد تحليل ذلك الأب سليم عبو أيما اجادة، الا أن تدمج دراسة اللغة العربية في الجوقة اللغوية والثقافية التي وضعتها في خضمها جغرافية هذا البلد وتاريخه. ولكي تقوم المؤسسة التي ندعو اليها بعملها خير قيام، ينبغي أن يطلق عليها اسم: المجمع اللبناني للغة العربية وسائر اللغات السامية. وهذه المؤسسة اذ تستدعي، لمثل هذه المهمة الواسعة النطاق، أفضل الاختصاصيين في العالم العربي بصفة أعضاء مواطنين، ونخبة الاختصاصيين في البلدان الأخرى بصفة أعضاء مراسلين لهم الحرمة نفسها، تكون خير ميدان يتيحه لبنان لكبار كتابه من أجل الحوار مع زملائهم في العالم أجمع.

قلت لكم انني، في هذه المحاضرة، سأرى خاصة الى المستقبل فأقترح عليكم نظرة اسلامية – مسيحية. وأظنني وفيت بما وعدت به، اذا أنا حكمت على ذلك من خلال الايمان الضئيل الذي لا بد أن تولده في أنفسكم تلك الآفاق التي رسمت معالمها ضمن اطار عدد من المؤسسات الواجب انشاؤها أو تجديدها.

بيد انه يراودني اكثر من تشكك في الضمير ان أنا لم أذكر واحيي في هذا المقام، دون أن أجرح تواضع أحد، مؤسسة قائمة، مؤسسة عاصرت استقلال لبنان وما تزال مطردة اليقظة والتجدد في عنايتها بجميع القضايا التي ذكرت. فبسبب فقدان المؤسسات المنظمة والمختصة وسعيا ً وراء انشائها، نلاحظ ان جميع الأمور التي أثرتها تجد الملتقى الطبيعي لتفاعلها ولانتشارها في العالم في هذه المؤسسة التي أنتم هذا المساء ضيوفها الأليفون أو زوارها لعشية عابرة. وتراني أحس بأنني أفي بعض ما علي من الجميل نحو من يذكي شعلتها منذ الساعة الاولى اذا ما أسهمت ولو بقسط قليل في حمل ضيوف الأمسية العارضة يتحولون، مثلي، الى رواد لها مدمنين.

و"الندوة" تهتم، الى ذلك، بقطاعات اخرى غير التي أشرت اليها معكم، ولذا يتشكك ضميري مرة اخرى اذ اني لم أتمثل بها في التعرض الى هذه الحقول في ما يخص الحوار المسيحي – الاسلامي.

قد تسلمون معي بأن ميدان اللغة العربية وتجددها هو غاية في الأهمية لكونه الوسيلة الممتازة للحوار بل هو التعبير عن كنهه الأساسي عينه. ولكن أليس تجديد الفنون مرتبطا ً أيضا ً ارتباطا ً وثيقا ً بميدان اللغة، على الأقل عن طريق الخط العربي وهو "فن الاسلام التجريدي"؟ قد تقولون لي، من جهة اخرى، لماذا لم تعالج، والوقت محدد ضرورةً، حقيقة الأمة الاجتماعية والاقتصادية بدلا ً من نظامها الانشائي؟ ولماذا لم تتكلم على العلم والتقنية بدل الكلام على الفكر الفلسفي وعلى التاريخ؟ ألا تظن أن هذه المعطيات أكثر أهمية في تطور العالم الحديث من تلك التي حاولت أن تعرضها؟ ثم ألا تعتقد أن الاسلام والمسيحية مضطران قسرا ً ومعا ً لمجابهة هذه المعطيات الأساسية للعالم الحديث في لبنان وفي كل مكان؟

في الواقع، يلزمني بحث كامل لتبرير الاختيار الذي اعتمدته. ولكن ان شاء لطفكم أن تسلموا معي بأن الوقت المحدد يفرض اختيارا ً، وان مثل هذا الاختيار هو، بطبيعة الحال، اعتباطي في بعض جنباته لمجرد انه اختيار شخص، يمكنني، على الأقل، أن أبين لكم أن اختياري هذا لا يتضمن أية لا مبالاة حيال الميادين التي لم أسبر غورها والتي ذكرتها معكم الآن.

ان اللبنانيين وأصدقاء لبنان ممن يهتمون، بالدرجة الأولى، بنمو لبنان الاقتصادي والاجتماعي، هم أولئك الذين أبقى معهم على تواصل تام. ووجود عمر عضاضة بيننا الليلة شهادة نفيسة لي. أما الفرع العلمي، فاني أستشفع حياله بالذي هو قيم عليه اليوم في الجامعة اللبنانية والذي ما زالت صداقته تشرفني، تلك الصداقة التي طبعت الى حد بعيد سنوات شبابنا الدراسية في باريس.

ولكن اذا كانت هذه الشهادات الشخصية تنفي عني تهمة اللا مبالاة حيال هذا، يبقى ان الاختيار الذي اعتمدته يستند الى أسباب أعمق جذورا ً تبرر اعتماده. اذ ذاك أقول: صحيح أن الميدان الاقتصادي والاجتماعي يلزمنا بآجال زمنية قاسرة، وأن الاعداد العلمي والتقني، من جهته، يفرض نفسه علينا كما يفرضها في العالم أجمع كضرورة أولية حتمية. غير أن أولئك الأشخاص أنفسهم الاكثر اطلاعا ً مني على هذه المعطيات وهذه الضرورات الملحة، يعترفون، عن طيبة خاطر، بأنه يجدر بنا أولا ً وضع نظام انشائي سليم ومستقر، وانه ينبغي، لاتقاء الزامات التطور، الا نضع المحراث أمام الفدان بل أن ننشىء قبل كل شيء عقولا ً نيرة صالحة للتفكير المنطقي السليم وللفصل، بطريقة نقدية، بين الخطا والصواب.

ثم انه لأكيد من جهة اخرى أن الميادين التي اخترتها تستدعي اكثر من غيرها الحوار بين المسيحيين والمسلمين، كمسيحيين ومسلمين، في حين ان تعاونهم في الحقول الاخرى ينبغي أن ينطلق تلقائيا ً وبصورة طبيعية، كما هي الحال لحسن الحظ في "الحركة الاجتماعية" مثلا ً.

ومهما يكن من أمر، فقد حان الوقت، قبل الختام، لأن نعود معا ً الى المعطيات التمهيدية فأقترح عليكم، كتكملة لهذه المحاضرة، نوعا ً من تصريح رجل مسيحي لبناني عندما يرى الى الاسلام. واذا كان هذا لا يقضي على الفائدة من العرض الذي قدمته لكم، فقد يكون من حسناته انه يبلور الافتراضات والنتائج.

4

ان شهادتي، بصفة كوني مسيحيا ً لبنانيا ً، حيال الاسلام تتضمن بعض مقترحات بسيطة.

ان المسيحية والاسلام، وقد بلغا مرحلة توازنهما الدولي وتواجههما السلمي، ولا سيما حول المتوسط، ضروريان احدهما للآخر. أعود ههنا الى أقوال حسن صعب نفسها. فازاء جميع القضايا الدولية الكبرى، لا يستطيع العالم المسيحي الاستغناء عن العالم الاسلامي، كما لا يستطيع العالم الاسلامي هو ايضا ً الاستغناء عن العالم المسيحي. كذلك لا يستطيع المسيحيون وحدهم اتمام ارادتهم، كما لا يستطيع المسلمون وحدهم اتمامها ايضا ً. بينما في امكان ارادة للسلم مشتركة بين المسيحيين والمسلمين فرض السلام في العالم قاطبة. ان تعبئة عامة للمؤمنين في العالم، من مسيحيين ومسلمين، انما هي قوة لا ترد، ومن شأنها أن تفرض السلام العالمي.

ان المسيحية والاسلام ضروريان اذن بعضهما لبعض، لأنهما ضروريان لسلام العالم واتحاده.

وبعبارة أسهل، استعير كلماتها من مثل من عندنا: اليد الواحدة لا تصفق.

وأضيف: ينبغي أن تنضم اليدان، لا للتصفيق للسلام فحسب، بل أيضا ً لاقامة الصلاة وتصعيدها الى العلاء.

ولكن اذا كانت المسيحية والاسلام ضروريين هكذا كلاهما للآخر، فلبنان اذ ذاك ضروري للمسيحية والاسلام، وبالتالي للعالم- ومن المهم هنا أن نعي ذلك وعيا ً جديا ً. ولا أقول هذا من قبيل الادعاء الأجوف، ذلك النوع من التعبير الأدبي الذي غالبا ً ما نلجأ اليه عندنا، وانما أقوله بخوف ووجل وتهيب، مصدرها الشعور العميق الذي هو شعورنا برسالتنا المشتركة، مسيحيين ومسلمين، في هذا البلد. ان وجود بلدنا على وئام بين سكانه جميعا ً لهو بالحقيقة اكثر من شهادة. انه برهان ناصع على ضرورة المسيحيين والمسلمين المتبادلة، وعلى ارادتهم العازمة على التعايش والتعاون والتفاعل.

ان لبنانا ً يريد نفسه مسيحيا ً صرفا ً أو بغالبية مسيحية، يفقد مبرر وجوده ويحكم على نفسه كما فعلت اسرائيل. وان لبنانا ً يريد نفسه اسلاميا ً صرفا ً أو بغالبية اسلامية، يحكم على نفسه أيضا ً ويجعل من الاسلام قاطبة عصبية عرقية غيرى على هويتها، مستقلة عن كل هوية أخرى وعاجزة عن العيش في اطار أمة متعددة ومتوحدة. غير أن لبنان كما هو وكما يريده ويحبه المسلمون النيرون هو أسطع حجة للاسلام أمام الرأي العام الدولي.

ولبنان أفضل من ذلك أيضا ً. انه ضروري للمسيحية جمعاء وللاسلام أجمع، كي يساعدهما على تحقيق مصير كل منهما الخاص الى الامام، وهو مصير لا يستطيعان تحقيقه الا معا ً.

وهذا أمر فهمته حديثا ً وأنا أبحث عن قاعدة لوحدة مسيحية صالحة للجميع في هذه الرقعة من العالم. ولما كنت اعتبر أن مسيحيي هذا البلد يدعون الانتماء الى مدينة انطاكية القديمة التي يحمل بطاركتهم اسمها المجيد، فقد حاولت أن أفهم مصير بطريركية انطاكية في قلب العالم المسيحي فتسنى لي ذلك على أحسن وجه بفضل الاسلام وخاصة ً بفضل مدينة اسلامية، هي المدينة الاسلامية المثلى، مدينة النبي. وهاكم كيف كان ذلك:

لم تحقق المسيحية ذاتها الا يوم خرجت من البيئة اليهودية في أورشليم، تلك البيئة المغلقة على نفسها قوميا ً وقانونيا ً وثقافيا ً، لتستقر في انطاكية، ومن هناك انفتحت على العالم مع اليهودية الهلينية المهاجرة. ان مؤلف كتاب "أعمال الرسل" سجل ذلك بعناية، كما ان الجيل المسيحي الاول لم يفته هذا الامر. ففي انطاكية حمل رسل المسيح، للمرة الاولى، اسم المسيحيين، وقد أصبحوا حقا ً مسيحيين بهذا الانتقال المحرر والمسكوني العالي. ومن انطاكية انما انطلقت مع بولس وبرنابا الارساليات المسيحية الاولى. ان هذا الزمن وهذا التحرك في تاريخ المسيحية ومسكونيتها العالمية يقابله تماما ً زمن وتحرك اسلامي مسكوني، كلاهما محرر. ان بدء العهد الاسلامي يؤرخ بهجرة النبي لا بولادته. لم ذلك؟ لماذا يبدأ العهد الاسلامي يوم ترك النبي مسقط رأسه وهاجر مع بعض صحبه الأول ملتحقا ً بالانصار في يثرب؟ لأنه يوم قطع محمد روابط الدم والقبلية ليحيك روابط جديدة وميثاق شرف وحق لاناس غرباء عن وطنه، يومذاك برز الى الوجود مجتمع جديد وولد الاسلام. ويوم استبدل النبي القرشي بمجتمعه القبلي والوراثي، حيث كانت تسود الولادة ودرجة القرابة والمصلحة التجارية والثأر، جماعة قوامها الاختيار الحر والسيادة المعنوية والايمان المشترك، يومذاك أبصرت النور أمة الاسلام العالمية الكبرى.

هذه الأمة يحييها المسيحي الذي أنا هو، أو بالاحرى الذي أريد أن أكونه بنعمة الله، يحييها، كما ترون، بأعظم اجلال. ولذا، عندما يبرز شيء من عدم التفاهم فانما هو يشير الينا بالعودة الى الينابيع. ان هذه المنابع تقربنا ولا تباعد بيننا البتة. وتراني أقول اننا في استمرار في حاجة كمسيحيين الى الخروج من أورشليم والاستقرار في انطاكية، واننا في حاجة كمسلمين الى مغادرة مكة لتجديد الهجرة الى المدينة.

وهذا بالضبط ما نفعله عندما نتواعد نحن، مسيحيين ومسلمين من كل ملة، على التلاقي في لبنان، فنقر اذ ذاك بأن مصيرنا ليس في الانغلاق بل بانفتاح بعضنا على بعض، وبالتفاهم وتبادل التقدير وبالمحبة وخدمة سائر أبناء الانسانية.

أنا لا أبغي الزام محدثي المسلم بجواب محرج، كما لا أريد أن أنساق في تصريحات عاطفية لا طائل تحتها. لذا، تراني أقول، كمسيحي، ان تعلقي الشخصي بالاسلام قوي بحيث أن جل رغبتي تتجنب اجتذابه بصورة خفية وغير شرعية نحونا، كما أنها تستهدف اكثر من تصالحه مع المسيحية. رغبتي العميقة انما هي في جعل الاسلام يتصالح هو ونفسه. واذ أنبذ أي نوع من الارتدادات الدينية معتبرا ً اياها جميعا ً من المساعي البائدة التي لا تليق بالضمير الديني الانجيلي الحق، تراني، على الأصح، أتهم نفسي برغبة تولدها عندي ميولي الطبيعية وصداقاتي ودروسي وتحملني على ولوج ضمير الاسلام نفسه ومن ثم مساعدته على تحقيق وحدته، ساعيا ً أبدا ً الى تجاوز نفسه ضمن خطه الذاتي.

هكذا تغدو رغبتي وطريقتي مصالحة الاسلام مع فلسفته ومصالحته مع صوفيته (وربما دفعته الى أن يعيد النظر في قضية الحلاج)، وحمله على استئناف فتح أبواب الاجتهاد في وجه دعاة التصلب والجمود كلهم من مسيحيين ومسلمين، اولئك المتشبثين بالتقاليد بأظفارهم وبراثنهم لا بأصولهم، ومصالحة الاسلام السني مع الاسلام الشيعي حيث فاءت أخيرا ً الفلسفة والصوفية كما تبين ذلك مؤلفات كوربان وحيث لم تنطلق منذ القدم، كما يلاحظ ماسينيون، أية حركة للعدالة الاجتماعية في الاسلام دون أن يقوم أحد من سلالة النبي لتأييدها والاستشهاد في سبيلها.
تلك هي اذن طريقتي في البحث والدراسة والحوار من أجل مصالحة الاسلام مع نفسه ومن أجل وحدته، لفرط ما يهم رغبتي المسيحية في الوحدة أن يكون الأمر كذلك. ففي مرحلة يميزها عمقا ً، بالنسبة الى المسيحيين، الطابع المسكوني، يغدو قيام مسكونية اسلامية من الأمور البعيدة الأهمية في نظرهم. وما كان المسيحيون ليخشوا هذه المسكونية، بل انهم، بالعكس، يلتمسونها. وان انشاء قداسة البابا بولس السادس سكرتيرية خاصة بالحوار مع المسلمين لهو بمثابة دعوة لمحاورين قيمين يتمكنون من الكلام باسم الاسلام في مختلف شيعه وفي مداه العالمي أيضا ً ككل لا يتجزأ.

ان المسيحية المسكونية اليوم، في تجردها ازاء الاسلام من كل مركب استفزاز ونقص وارتداد، وفي ثقتها بالمصير الحر لكل ضمير ديني في قلب الطائفة التي ولد فيها وبحريته في أن يبقى في تلك الطائفة أو أن ينفصل عنها (وأية قيمة للايمان ان لم يعش في مثل هذه الحرية؟)، وفي ثقتها الثقة نفسها بمصير كل طائفة دينية في التاريخ وفي تصميم الله، - ان هذه المسيحية ترى في الاسلام المصالح مع نفسه والذي تكون قد ساعدته هي عند الحاجة على تحقيق مسكونيته الاسلامية، ترى فيه أفضل المحاورين أصالة وأثمن الحلفاء وأكثرهم ضرورة في النضال من أجل الايمان الديني والعدالة الاجتماعية.

في ما يتعلق بي شخصيا ً، أستطيع القول، دونما استسلام للمسارات، ان هذا المرمى لرغباتنا المسيحية أصبح وكأنه تحقق منذ زمن بعيد، كما ان كل ما هو اسلامي أصبح منذ زمن بعيد يخصني وكأنه التأم في أعمق أعماق فكري. ولما كان عملي الأول قد قام بوجه بعض التحليلات النقدية على برهنة كون القرآن ما زال كلا ً لا يتجزأ ضمن نطاق الايمان القديم باله ابراهيم، فاني استطيع القول الآن انني، منذ فاتحة الكتاب الى آخر صفحة ظهرت في العالم الاسلامي من المغرب الى اندونيسيا ومن آسيا الوسطى الى افريقيا السوداء، أحفظ كل ذلك في ببليوغرافية مجلة "الدروس الاسلامية"، وان كل هذا الذي هو اسلامي يدعوني ويكلمني فأجيبه. بل اني أحاول أن أجيبه بلهجته الخاصة، فتراني أميز ما يقترحه علي، فأتلقاه وأحمله الى خطه الذاتي وأسير واياه نحو كمال الحقيقة التي انبثق منها، باسم اله ابراهيم وحبا ً به.

تلمسون في ذلك موقف لويس ماسينيون الروحاني الداخلي. لم أذكره في هذا الحديث الا عرضا ً بينما كان من الأجدى أن أعرض موقفه بانتظام لو أمكن، ولكنت أقللت من ذكره أكثر من ذلك، تحفظا ً وحياء ً، لو لم يكن ثمة عرفان للجميل مقدس وبنوة روحية وموضوعية علمية تدفعني في النهاية لأن أرد اليه أمامكم أحسن ما استطعت عرضه عليكم.

ومنه أستعير اذكارا ً أخيرا ً أختم به كلامي. سبق أن تكلمت على المدينة، على أنها المدينة الحق حيث كشفت هجرة محمد اليها الاسلام لنفسه، كما ان الانتقال من أورشليم الى انطاكية علم المسيحية الانصهار في مسكونية عالمية مطردة الامتداد. والمعروف ان لويس ماسينيون خص أحد مؤلفاته الأخيرة ب "روضة المدينة" كاطار للتأمل الاسلامي في مصير النبي.

فحول فكرة الروضة هذه، حيث دفن النبي في اتجاه القبلة، بين ابي بكر وعمر، بينما هناك ضريح رابع ما زال فارغا ً ينتظر عودة عيسى بن مريم الى جانبه، - حول هذه الفكرة، وعلى ضوء "قنديل المواجهة" السري، وفي تلك القبلة، لا قبلة مكة بل قبلة الأنبياء، قبلة الاسلام الاولى والأخيرة، مع كل المؤمنين باله ابراهيم، قبلة القدس اذن، أريد القيام باذكاري الأخير لنبي الاسلام ابتهالا ً ودعاء ً لمصيره.

في الدراسة التي استشهدت بها مرارا ً، يأخذ حسن صعب على المسيحية انها لم تمنح بعد نبي الاسلام المكانة العائدة اليه، لا في نظر تاريخ الأديان ولا على صعيد الفكر اللاهوتي الصرف. اني أود أن أبين له في اذكاري ودعائي هذا المساء، انه، اذا كانت هذه الرؤيا الدينية للأشياء لم تنطلق بعد في طريقها انطلاقا ً كافيا ً، فهناك أكثر من نفس مسيحية من النفوس التي أعرفها والتي أتفاعل واياها عبر المسافات، تعرف كيف تحفظ لفكر محمد مكانا ً في تصاميم صلاتها.

لقد فكرت بذلك مرارا ً واذكرته في مختلف مقامات الاسلام المقصودة، المتواضعة منها والسامية، التي زرتها. فعلت ذلك في القدس، بين الاقصى، مكان المعراج التقليدي، والصخرة مكان ذبيحة ابراهيم. فعلته في الامام الشافعي بالقاهرة حيث الزاوية الجنوبية الشرقية لمدينة الأموات المؤثرة التي يشرف عليها مزار أمير العشاق، تتميز، في اتجاه مكة وعلى طريق الحج الذي سلكه قديما ً المحمل المصري، بقبر سيدي عقبة، واحد من صحابه النبي الأول. فعلته في بواكه، على الساحل العاجي، بالقرب من جامع وضيع يقوم هناك عند حدود الغابة الكبيرة والسهل الأخضر، في قلب أفريقيا نفسها، وقد فكرت اذ ذاك بصحراء الجزيرة العربية التي اذكرها ماسينيون وتشوق اليها على أنها "قلب الاسلام الحزين". وفعلته أيضا ً مرارا ً في المغرب، ولا سيما في مولاي ادريس، ذاك المقام السامي من حيث انطلق نشر الاسلام في البلاد على يد الولي الحامل الاسم نفسه، وفي تين – مال في بطون الاطلس العالي المشرف على مراكش من جهة تيزي – ان – تست، من حيث انطلقت مع محمد بن تومرت وتلميذه عبد المؤمن الحركة الموحدية الكبرى.

وغالبا ً ما فعلته أخيرا ً في ضواحي المقابر الاسلامية بالمغرب، وقد تجمعت بقعا ً من الأرض شاسعة في المدن الكبرى أو توزعت مهملةً في الأرياف. ويشاء تقليد هناك أن تعود، مساء يوم الجمعة، يوم تستطيع النساء المسلمات أن يتوجهن الى المقابر، أن تعود نفس النبي فتستنشق عبير غور الند، تماما ً كما تعود أسراب العصافير العطشى لتشرب من أكواب هيأتها لها أيد ورعة ورحمة ً بالأحبة الراقدين هناك على رجاء القيامة والبعث.

في هذه الاتجاهات المتعددة وعلى الرجاء نفسه، لن أحمل اذا ً أيا ً منكم على الاستغراب اذا ما اتجهت بفكري، كالنبي في قبره بالمدينة، نحو قبلة القدس واليوم الاخير وجهرت بما اختلج مرارا ً في نفسي وتحرك مبهما ً على شفتي:

سلام عليك في رقادك بين أصحابك وحسامك لا يزال مجردا ً على المشركين.
"واذ قال ابراهيم: رب اجعل هذا البلد آمنا ً واجنبني وبني أن نعبد الأصنام" (سورة ابراهيم). سلام عليك لأنك أعلنت على العالم قاطبة شريعة العبادة الموحدة وأقسمت لتعممنها على الخلق أجمعين.
"قل: هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا ً أحد" (سورة الاخلاص).
سلام عليك لاعلانك الحرب على عشيرتك وذويك وما برحت تنذرهم حتى يعلوا حقوق الله على قوى الذهب والفضة.
"واذ قال لأبيه وقومه ماذا تبعدون ائفكا ً آلهة دون الله تريدون يا قومي اني بريء مما تشركون... اني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا ً وما أنا من المشركين" (سورة الصافات وسورة الأنعام).
سلام عليك لأنك لم تنس يوم بطشك أيام ضعفك وما زلت تستعطف أفئدة الناس في سبيل السائل واليتيم.
"والضحى والليل اذا سجا ما ودعك ربك وما قلى...
فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر وأما بنعمة ربك فحدث" (سورة الضحى).
سلام عليك اذ لم تنس أيام سيطرتك رغبات صباك ولم تفطم بطهر تنزيلك ظمأ المؤمنين بكلامك الى العشق الالهي كالحلاج وغيره من الشهداء.
"ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك... فاذا فرغت فانصب والى ربك فارغب" (سورة الشرح).
سلام عليك اذ لم تنكر تواضع انسانيتك أمام قومك مؤيدا ً حتى النهاية حقيقة البشرى التي عهد بها اليك تصديقا ً لبشرى الأنبياء الخالدة من قبلك.
"قل: انما أنا بشر مثلكم يوحى الي انما الهكم اله واحد" (سورة الكهف).
سلام عليك وعلى جميع الأنبياء الذين طالما صليت عليهم وسلمت تسليما ً.
"وتركنا عليه في الآخرين: سلام على ابراهيم! سلام على موسى وهارون!" (سورة الصافات). سلام عليك يا من تأثرت لمريم من اتهامات قومها الباطلات المنكرات.
"بكفرهم وقولهم على مريم بهتانا ً عظيما ً"(سورة النساء).
سلام عليك لاعتقادك انتهال أروع ما قيل باللغة العربية على لسان الله خاصا ً بها تكوين عيسى بن مريم كمثل آدم من قبل.
"واذكر في الكتاب مريم اذ انتبذت من أهلها مكانا ً شرقيا ً..." (سورة مريم).
سلام عليك لأنك لم تحرم احدا ً من ذرية ابراهيم بركة الوعد الميمون.
"قالت اليهود: يد الله مغلولة. غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا. بل يداه مبسوطتان" (سورة المائدة). سلام عليك لأنك ربك في ذلك الوعد الذي امتن به على ابراهيم لم يشأ أن يغفل اسماعيل ولا اسحق.
"الحمد لله الذي وهبني على الكبر اسماعيل واسحق.
ان ربي لسميع الدعاء"(سورة ابراهيم".
سلام عليك لذلك السر المكنون الذي بشر به ربك بعيسى بن مريم حتى ليتجرأ اليوم واحد من تلاميذه على أن يضع في شفتيك وحفاظا ً على سلام نفسك ما وضعه ربك على شفتيه.
"والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا ً" (سورة مريم).
Mon Jul 22, 2013 1:06 pm View user's profile Send private message Send e-mail Visit poster's website
Display posts from previous:    
Reply to topic     discoverlebanon.com Forum Index » لبنان ... باللغة العربية
   
Page 1 of 1

 
Jump to: 


 
 
  Panoramic Views | Photos | Ecards | Posters | Map | Directory | Weather | White Pages | Recipes | Lebanon News | Eco Tourism
Phone & Dine | Deals | Hotel Reservation | Events | Movies | Chat |
Wallpapers | Shopping | Forums | TV and Radio | Presentation


Copyright DiscoverLebanon 97 - 2020. All Rights Reserved

Advertise | Terms of use | Credits