Back Home (To the main page)

Souvenirs and books from Lebanon
 

Sections

About us

Contact us

 
 
SearchFAQMemberlistUsergroupsLog in
Nassib Azar

 

 
Reply to topic     discoverlebanon.com Forum Index » لبنان ... باللغة العربية
  View previous topic
View next topic
Nassib Azar
Author Message
admin
Site Admin


Joined: 09 Mar 2007
Posts: 529
Location: Jbeil Byblos

Post Nassib Azar Reply with quote
نسيب عازار 1904-1982 بقلم: نسيب نمر عضو المجلس الثقافي في بلاد جبيل

اذا حاولت دراسة نسيب عازار ناقدا ً ومفكرا ً وأديبا ً ورجل سياسة قام بدوره في عهدي الانتداب الفرنسي والاستقلال السياسي حتى كفر بالسياسة وأصحابها وانصرف الى شؤون الفكر والأدب، خفت ان تختلط آراؤه المدونة والمكتوبة المبثوثة آثاره المطبوعة بآرائه التي طالما سمعتها منه على مدى عقود عدةن من السنين، سواء اتفقنا في بعضها أم تباينت نظرتنا في بعضها الآخر، وكثيرا ً ما اتفقنا على أشياء واختلفنا على اشياء، وكنا، في حالتي التماثل في الرأي أو التباين، نخرج مطمئنين الى أن الحرية في خير ما دامت أجواؤها ومناخاتها في هذا البلد الصغير الذي صنع عصر النهضة وأغناه وما زال، تسمح بان يكون لاختلاف الرأي وتعددية التطلعات مكان رحب فسيح، فلا تخنق الكلمة في الصدور ولا توأد الخفقة في القلوب ولا يتحول الحب مداهنة ومراءاة والبغض والكره تقيه وباطنية تقضي على صاحبها قبل الآخرين.

حسبي في حديثي عن نسيب عازار أنني اعبر من قناعاتي من جهة وعن آرائه من جهة ثانية غير بعيد عن الموضوعية المعتبرة في ظن الكثيرين وظني المقياس الاول في الحكم على الأشياء وتالوصول الى ما يقرب من اليقين والحقيقة علما ً ان اليقين الكلي والحقيقة المطلقة غير قائمين الا في العالم الطوباوي المتخيل أو في النزوات الشخصية والمزاجية الذاتية غير الخاضعة الا لما يحوكه الانسان في رأسه مثلما العنكبوت، وقد طالم هاجم نسيب هذه المدرسة في النقد والدراسة الأدبية وشن عليها حربا ً عوانا ً منطلقا ً في هذه الحرب وذاك الهجوم من مفاهيم النقد الفني المعاصر، وقد كان أحد رواده في هذا القرن ومن بناته على مرتكزات معينة اذا أخفقت حينا ً أصابت أحيانا ً او أكثر الاحيان.

وفي أحاديث كثيرة كانت تمتد غالبا ً الى موهن من الليل ولا تخلو من جولات عامة في مواطن الفن روحاب الأدب العالمي، اعتاد أن يسمي بعض من يتصدون للنقد ضفادع مهذارة تحاول تعكير المياه الرقراقة باصواتها الرتيبة الكررة وكأنما تسعى الى اخفاء الغابة وراء اصبع دقيقة نحيفة أو شجرة صغيرة عاجزة عن منع رؤية اختها فكيف بالغابة الفسيحة الواسعة، ومما كان يقوله عن بعضهم انهم درجوا في الحكم على الأثر الفني والأدبي دون ان يدرسوه هذا اذا قرأوه، ومن غير ان يحيطوا به لو افترضنا انهم أحاطوا ببعض علاقاته، الشكلية في الاكثر، متجاوزين علاقاته جميعا ً مع أن أول شرط للنقد الأصيل أخذ هذه العلاقات الداخلية والخارجية، في لعبة جدلية تربط بين المتضادات وتوحد بين المتناقضات لتصل الى الموضوعية الحية والحيوية مثلما الوجود واشياؤه ومنها الانسان بوضوحه وغموضه معا ً وليست تلك الموضوعية الجامدة، والصنمية، والتافهة، والجاهزة بأحكامها واستنتاجاتها وهي ما أشبهها بالمادية المبتذلة او المثالية الميثولوجية والخرافية وكلتاهما تنبع من التصور الذاتي المشوه للوجود والمزاجية الفردية في النظر الى حركية الموجودات المطلقة ذات السكونية النسبية جبرا ً.

وفي مراجعتنا وجهة نظرة النقدية العامة التي أودعها "التوطئة" في كتابه "نقد الشعر في الأدب العربي" الصادر في 25 حزيران 1939 عن دار "المكشوف"، وكان ينوي تعديل بعض الآراء القليلة فلم يمكنه الموت من ذلك، نرى انه تلمس مرتكزات عدة لا مفر للناقد من استرشادها حين يتعامل مع الأثر الادبي والفني والفلسفي أيضا ً، وهذه المرتكزات هي الآتية دون الزعم اننا نستوفيها كلها بل الرئيسي منها:

أ- عدم نظر الناقد الى عبارة واحدة أو رأي واحد في الأثر مما قد يبدو متناقضا ً مع مذهب الفنان والمفكر والفيلسوف والشاعر، وانما عليه استرشاد مجمل مذهبه واخضاع العبارة أو الرأي الذي رآه متناقضا ً الى المذهب كلا، يقول عن عبارة ارسطو المعروفة "الفن يقلد الطبيعة" اننا "لنستطيع ان نتفهم مرمى ارسطو في نظريته هذه ينبغي لنا ان نستنير بفلسفته العامة ونستجلي قصده بلفظتي التقليد والطبيعة". وفي هذا أقدم مثالا ً طالما شغل الفلاسفة حين قال هيغل عبارته الشهيرة "كل ما هو واقعي عقلاني وكل ما هو عقلاني واقعي" ، حيث اننا اذا اخذناها منفصلة عن المذهب الهيغلي عنت غير ما يقصده الفيلسوف من ان الواقعي يختلف عن الموجود وهو غيره، والموجود الواقعي والعقلاني يتحول الى لاعقلي ولا واقعي حين يفقد شروط وجوده الموضوعية، واذن فليس كل موجود عقليا ً وواقعيا ً وانما واقعيته وعقلانيته تنهضان على ارتباطه بشروط وجود الموضوعي حتى اذا تجرد منها أصبح موجودا ً فقط وليس موجودا ً واقعيا ً وعقلانيا ً وقد اضطر هيغل الى تفسير عبارته هذه على ضوء مذهبه العام بعدما خفي القصد على الكثيرين وانتقده عليها بعض الفلاسفة والمفكرين، ونسيب عازار حين يطلب اخضاع عبارة ارسطو عن "الفن يقلد الطبيعة" الى الاستنارة بفلسفته العامة انما كان يعني ما نقوله والا تعذر علينا استجلاء القصد من لفظتي التقليد والطبيعة.
ويضيف "يجمع الباحثون على ان ارسطو لم يعن بالتقليد مجرد النقل أو النسخ، فالفنان في نظره ليس مرآة تنعكس عليها الطبيعة كما هي او وسيلة مطواعة تنقل الصور، بل هو عامل، عاقل، مميز، مطلق الارادة، يختار ويكيف ويبذل"، وفهمت من قوله عن اطلاقية الارادة عند الانسان انها مرهونة بالطبيعة وقوانينها والا بطل أي معنى لقول أرسطو حول تقليد الفن الطبيعة.

ب- أخذه الطبيعة في الفن علاقة جدلية بين العالم الخارجي والعالم الداخلي الانساني الذي يعقل ويميز ويختار ويكيف ويبدل وهو حر في هذه السلوكية الاساسية لعملية المعرفة كلها، ذلك ان الانسان وحده من يبدل الطبيعة - وهو حر ان يفعل او لا يفعل - فيما الكائنات العضوية الاخرى تكتفي باستخدام ما تقدمه الطبيعة لها جاهزا ً، معطى، وما كان تسنى له ذلك لو لم يعقلها ويميز بين موجوداتها عقليا ً لا حسيا ً فحسب ثم يختار منها ما يشاء ويبدله حسب قدرته وغائيته. انه هنا، بمعنى ما، ليس مرآة تنقل الطبيعة وتقلدها حسيا ً كما هي وانما تنقلها حسيا ً وعقليا ً معا ً مما يمنحه القدرة على الخلق صمن حدود قوانينها نفسها وعن طريق كشفها وتطويعها والانسجام معها.

ج- عجز الفكر عن معرفة الحقيقة الكاملة، فالمعرفة لا تكون الا تقريبية وهذا لأسباب موضوعية وذاتية معا ً لعل أهمها عجز الفكر عن اكتشاف جميع العلاقات الداخلية والخارجية للأشياء بذاتها حتى يحولها الى اشياء لذاتنا نحن في صورة مطلقة وكلية وهي دائمة التغير في ما هيتها ذاتها، وأقصى ما نتوخاه المعرفة التقريبية ومرافقة تطور الاشياء وتغيرها ورصدها في حركتها المطلقة وسكونها النسبي والتعبير عن ذلك نظريا ً وممارسة مع التأثير فيها وتبديلها وفق سننها وقوانينها الموضوعية نفسها، وقد قال نسيب عازار مستشهدا ً بآراء عدد من النقاد المعاصرين مثل بتشر وغيره "وسواء اتخذ الفنان موضوعاته من واقع الحياة ام من مخيلته وأمثلته العليا، فان الطبيعة في معناها الشامل هي التي تمده بالعناصر الأولى، ومن معدنها يتناول مادته".

د- ما سبق يعني ان الفكر يأخذ اشياء الطبيعة وظاهراتها في صورة حية وليس كما تفعل المرآة لهذه الأشياء والظاهرات والا كنا أمام عملية نسخ لا عملية فن وخلق وابداع تربط بين الظاهرة وحاضرها ومستقبلها، بين حركتها المطلقة وسكونيتها النسبية، فليست مهمة الفنان في كل حال، كما يقول نسيب عازار، "ان يقلد الحياة والطبيعة تقليدا ً مجردا ً وان ينقل صورة تامة عن الاشياء مشتملة على احصاء دقيق لجميع أجزائها وتفاصيلها، حتى في أعماله التصويرية او الوصفية".

ه- اعتبار الفن قوة عقلية أيضا ً وليس قوة شعورية وحسية وحدسية واشراقية فقط وما الى ذلك، لأن العقل وحده ما ينظم القوى الشعورية الاخرى ليعطيها القدرة على معرفة مواطن الجمال والتأثر به على مستوى أعلى وارفع من تأثر الحس والشعور ولو هو يقوم أصلا ً عليهما، وقد قال نسيب عازار، ان ارسطو رأى "في الفن قوة عقلية تتكهن بمقاصد الطبيعة غير التامة وتظهر مثلها الأعلى للحس".

و- جعل الطبيعة (أو الوجود المادي المحيط بنا) هي التي تمد الفنان بالعناصر الكافية سواء اتخذ موضوعاته من الحياة ووقائعها او من مخيلته وامثلته العليا لان هذه المخيلة والأمثلة العليا مستمدة بدورها من وقائع الحياة كما هي أو كما نتصورها ان تكون، وهي في كل حال من نتاج الطبيعة نفسها، حتى الاشياء التي نحاول فصلها عن الطبيعة وجعلها مستقلة وغريبة عنها أو موجدة لها ليست سوى نتاج لهذه الطبيعة ومسلوخة منها وبدونها لا تكون أفكارنا عنها ولو حسبنا ذلك بانقيادنا الى الذاتية الموغلة في ذاتيتها حيث لا يخرج دورنا في كل هذا عن أننا نقلد الطبيعة سواء في الفن أو الفكر أو الخيال والصورة والظن والحدس، ومما قاله نسيب عازار عن هذه المشكلة مستشهدا ً بتفسير بتشر لعبارة ارسطو اذا صدق التفسير "على أن الفن في تقليده الطبيعة قد يكشف بعض ما احتجب عن العيان من مقاصدها وصورها الخفية، ويخلق ما ليس له نظير في عالم الواقع" الا انه يعود فيؤكد ان "الطبيعة في معناها الشامل هي التي تمده بالعناصر الاولى، ومن معدنها يتناول مادته" ما يعني ان كل موضوعة من موضوعات الفنان مهما بدت واقعية او متخيلة مستمدة من معدن الطبيعة وليس من معدن آخر.

ز- ضرورة اندماج عاطفة الفنان في الوقائع التي يمثلها حتى يستطيع تأدية غرضه ما يعبر عنه بضرورة الانسجام بين الذات والموضوع نتيجة انسجام حركية الاشياء نفسها في المطلق مع تماثلها النسبي اذ التماثل هنا جزء من الحركة او اللاتماثل بين الاشياء، فلا يكون الفنان على هامش الطبيعة وفوقها لتعذر ذلك عليه كما على الفكر الانساني كلا ً، اذا المثل الفنية، مهما بدت تجريدية وذاتية وحدسية وفوقية، مستمدة من الحياة والطبيعة حتى ولو لم يعرف الفنان ذلك او لم يرد الاعتراف به، ويسمي نسيب عازار عملية الانسجام هذه بالحب الذي يمحضه الفنان للموضوع فيقول "لا يستطيع الفنان ان يؤدي غرضه ويمس العاطفة اذا لم يشعر هو نفسه بعاطفة أمام الوقائع التي يتوخى تمثيلها... وقال جول لمتر في هذا الصدد ان المرء يجب ان يحب الشيء ليفهمه تمام الفهم". ح- لا بد للفنان من الاختيار امام لا محدودية الطبيعة والوجود والاشياء وأقصى ما يبلغه القدرة على اختيار ما يؤثر في الموضوع والذات ويكون قادرا ً على جعل الفن حيا ً متحركا ً مرتبطا ً بالحياة حيث يأخذ الاشياء مثلما هي وعلى خلاف ما هي في الوقت نفسه والا تحول الى آلة فوتوغرافية ومرآة ناسخة لا أكثر ولا أقل او انقلب الى ضرب من الميثولوجيا يبعد عن الحياة وأشيائها والتأثير فيها ويعيش في مناخ خرافي واسطوري لا مثيل له في عالم الواقع والحقيقة، والفنان من صان نفسه عن هذا وذاك في اختياره وتفضيله وظل محافظا ً على ظلاله داخل الحياة وفي صلب مشكلاتها المختلفة، وهذا ما قصده نسيب عازار حين تحدث عن عاطفة الفنان نحو الموضوع فهو " اذ يشعر بهذه العاطفة لا بد له من ان يهتز ويعجب وينقاد باحساسه وغزيرته الى الاختيار والتفضيل في عمل الطبيعة الذي بين يديه فيغفل منها أشياء ويتشبث باشياء، وقد يضيف ويبدل ليجيء عمله ملائما ً لطبيعة احساسه بالاختيار والتفضيل والتنسيق".

ط- اذا كانت مشكلة الفن الاختيار بين الاشياء الواقعية والتفضيل في عمل الطبيعة، واذا كانت مهمة الفنان تلبية هذا التفضيل وذلك الاختيار، فقد وصلنا الى مأزق الذاتية والموضوعية في الفن كما في النقد والفلسفة والفكر بعامة، واذن فما الحل؟

لقد حاول نسيب عازار ايجاد الحل عن طريق التوازن بين الذاتية والموضوعية دون أن يعطي الاولوية احداهما، وهي محاولة ناقد أصيل دقيق رغم اني على غير مذهبه هذا اذ أرى مع عملية توافرها معا ً عند الفنان والمفكر واعطائهما المقياس او الميزان ذا الكفتين المتوازيتين ان الأولوية تظل الى جانب الموضوعية وتبقى الذاتية خاضعة لها ومرتبطة بها، وهذا ما لمسناه من تأكيد نسيب عازار على ان الطبيعة تمد الفنان "بالعناصر الأولى ومن معدنها يتناول مادته" وكذلك من قوله انه اذ ينقاد باحساسه وغزيرته الى الاختيار والتفضيل بعدما يشعر بالعاطفة نحو الموضوع لا يفعل الا ضمن "عمل الطبيعة الذي بين يديه فيغفل منها أشياء ويتشبث بأشياء" أي ان الذاتية تنحصر في القدرة على الاختيار والتفضيل مما تقدمه الموضوعية وليس أكثر من ذلك.

في المشكلة المنوه بقول نسيب عازار "لسنا في صدد تحليل هذه العملية الخيالية، عملية الاختيار والتفضيل في نفس الفنان، ولكن الفكر الحديث يعدها أهم مواهب الفنان ويراها تتجلى في طريقتين كل منهما تعود الى طبيعة تكوينه وهما الذاتية والموضوعية... والفنان الأكبر من رزق هاتين العطيتين كلتيهما واستطاع ان يوازن بينهما".

وأحسب أن نسيب عازار لم يتقيد تماما ً بهذا التوازن لا في بحوثه النقدية المنشورة ولا في آرائه التي طالما سمعتها منه وربما في مخطوطات نقدية له اذا كان قد ترك اشياء منها ترتبط بالنقد وشؤونه، وكم وددت لو امتدت به الحياة أكثر مما فعلت وامهله الموت كما يمهل الكثيرين حتى يتسنى له تعديل بعض آرائه في "نقد الشعر" وقد عزم عليه لاخراجه في طبعة ثانية، فقد كان يجد الخطأ كله في النقد الذاتي او الانطباعي والمزاجي ويرى الخطأ عند النقد الموضوعي في اهماله أحيانا ً الدور الحقيقي والفعلي للذات، اي انه رفض الناقد الموضوعي اهماله بعض المقاييس النقدية الضرورية، وثمة فارق رئيسي بين ان نرفض علاقات او جوانب معينة من الشيء بعدما نحسبه ظاهرة طبيعية الا في هذه العلاقات والجوانب المعينة.

وحتى في بحثه عن "التوازن" بين الذاتية والموضوعية نراه يأخذ جانب الموضوعية ويرفض الذاتية ولو في صورة غير مباشرة فيقول "فالذاتية تقتاد الفنان الى النظر الى وقائع الحياة من ناحية الشخصية فيعبر في اختياره وتفضيله وتخيله لها عن لذته الخاصة وعما يروقه منها. والموضوعية تمكنه من فهمها والنفوذ اليها ورؤيتها كما هي، فيدرك بقوة تمييزه وملاحظته ما هو أكثر أهمية فيها وأشد تعبيرا ً عن مزاياها، فيبرزه دون تقيد بلذته الخاصة أو ذوقه الشخصي في التفضيل" وكاد يقول هنا: مع تقيد باللذة الكلية والذوق العام في عملية التفضيل هذه، مع الأخذ بالاعتبار انه حين يدرك بقوة تمييزه وملاحظته ما هو أكثر أهمية في وقائع الحياة انما يتحول الى ذاتي أيضا ً ولكن بمنظار موضوعي ودون ان يضحي بالموضوع ويغتاله على مذبح رؤيته الذاتية ورؤاه الخيالية المزاجية. فالفنان الموضوعي انما هو فنان ذاتي في الوقت نفسه ولكن مع عدم انفصاله عن الموضوع أو تغليب الذات عليه أو حتى نفيه ورفضه. أما الفنان الذاتي فواضح انه غير موضوعي ولا يهتم بالموضوع بل برفضه ويغتاله جريا ً وراء ما يحوكه في رأسه لالباسه الوجود مثلما العنكبوت، ودوره هذا انما هو سالب وبعيد عن الايجابية والوجود والحياة ليأخذ شكلا ً مرضيا ً لا يختلف عن الانفصامية والامراض البسيكولوجية الاخرى.

فالفنان انما هو معطى مميز وخاص من معطيات الطبيعة ولهذا فهو غير قادر على التفلت من "أمه" مهما كان عاقا ً ومهما بلغت شطحاته الشعورية والروحية والصوفية والذاتية من بعد عن هذه الأم التي تحب ان تخفي عاطفتها نحوه دوما ً ولا تتسامح في ان يخفي عاطفته نحوها بأي حال، اذ عليه - دوما ً أيضا ً- أن يكتشفها في استمرار ويعبر عن وجودها فيه ووجوده فيها من غير انقطاع والا فقد ذاته وتخلى عن دوره الانساني وانقلب الى شيء من الاشياء الموجودة في الذات وليس للذات على حد تقسيم جان بول سارتر بين الوجود في الذات والوجود للذات، الأول للاشياء والطبيعة والثاني للانسان المفكر العاقل وفي هذا الوجود الثاني تنهض الحرية التي تعني في رأي سينوزا وانجلس وعلى خلاف سارتر بانها فهم الضرورة.

لكل هذا تأتى لنسيب عازار ان يقيم ميزانه النقدي الدقيق على مرتكزات موضوعية اولا ً وذاتية ثانيا ً برغم قوله انه يوازن بينهما حيث الموازنة، كما رأيت، شكلية فيما ترجيح الموضوعية عنده جوهرية وواقعية، حتى أنه كثيرا ً ما أسر الي في احاديثنا الليلية والنهارية المطولة بان الناقد الانطباعي، هو ذاتي خالص، غير قادر على تقويم الأثر الادبي والفني والشعري فهو لا يعد ناقدا ً ولا يحسب صرافا ً يكتشف الدرهم المزيف من الدرهم الحقيقي، ولهذا فدوره في ميزان النقد تافه وهامشي وان حسب غير ذلك،وكان، رحمه الله، يضرب لي الأمثال المغززة باسماء يعتقد بان أصحابها نقاد وهم غير ذلك، وهذه الاسماء لم يحن وقت الاعلان عنها بعد وربما لن يحين لسبب او أسباب.

أما مدهبه العام في النقد، وقد تحدثنا عن مرتكزات منه رئيسية، فيمكن اقامته في صورة عامة على قاعدتين متلازمتين لا بد من أن توافقه عليهما بدون تحفظ أو ترددهما:

الاولى انه كان يطلب الاختصاص في فن النقد ويسعى اليه معتبرا ُ النقد الاصيل، بمعنى ما، علما ً من العلوم وليس انطباع ذات ومزاجية خاصة منفلتة من كل اصول، وتأكيدا ً على رأيه هذا صدر كتابه "نقد الشعر" بعبارة للجمحي كانت أول عبارة فيه هي "وقال قائل لخلف اذا سمعت انا بالشعر، واستحسنته فما ابالي ما قلت فيه أنت وأصحابك، فقال له: اذا اخترت انت درهما ً فاستحسنته فقال لك الصراف انه رديء هل ينفعك استحسانك له"، هذا برغم اثباته عبارة لابن رشيق بعد الاولى مباشرة تنزع الى الذاتية في الحكم مع تحفظ كثير او قليل هي "وسمعت بعض الحذاق يقول: ليس للجودة في الشعر صفة انما هو شيء يقع في النفس عند المميز كالفرند في السيف والملاحة في الوجه" والفرق واضح في نقد الشعر بين الجمحي وخلف وبين ابن رشيق، فهو عند الاولين علم وصناعة قادران على اكتشاف الدرهم الجيد من الرديء وهو عند الثاني شيء يقع في النفس وينطبع فيها مثلما الفرند في السيف والملاحة في الوجه الا ان ابن رشيق لم يقطع بذلك ولم يؤكده بحزم بل نقل قول بعض الحذاق في الشعر تاركا ً مجالا ً واسعا ً للنفي والشك والترجيح، وفي هذا يقول نسيب عازار"من المتفق عليه ان الناحية الذهنية في الشعر ينبغي ان لا تطغى على الناحيتين العاطفية والانسانية، أي ان الأفكار يجب ان تندمج في التمييز الفني اندماجا ً تاما ً وان تخضع لقواعد الجمال الشعري كما يقول ماتيو ارنولد".

والثانية انه كان يطلب من الناقد تناول "مؤلفات معاصريه ممن يستحقون النقد بروح العطف والحب... على أننا لا نقصد... انه يجب على الناقد ان يتغاضى عن المساوىء ويقف قلمه على الاطناب في المحاسن والاشادة بها، كما اننا لا ننكر ان الناقد باحث نزيه غرضه ان يميز القيم الادبية الصحيحة وانه كثيرا ً ما يضطر مسوقا ً بنزاهته الى ان يعيب الساقط ويندد بالقبيح كما يثني على الجميل ويطربه، ولكن يخلق به ان يكون باحثا ً متحليا ً بالرفق والعطف، يفي الاحسان حقه ولو جاء برفقة الاساءة، ويتوخى الانصاف حيثما يصلح التجويد على التقصير، لا ان يكون خصما ً قاسيا ً موغر الصدر دأبه ان يترصد السقطات ويستفرغ مجهوده في تعقبها. وغني عن البيان ان كلامنا لا يتناول الساقط السخيف من النظم والنثر، فهذا ينحط عن درجة الادب ولا يستحق النقد، ولا يلقى الناقد الخبير عناء في تمييزه".

وعندي ان هاتين القاعدتين الضرورتين للناقد، وهما معاملة النقد علما ً لا مزاجا ً وتغليب العطف والحب عند تناول الأثر على البغض والازدراء، تؤلفان العمود الفقري والقلب النابض والدماغ المفكر لبنيانية النقد السليم، والخروج عنهما او عدم فهم القصد منهما او العجز عن تطبيقهما يؤدي الى انحراف خطير من جانبيه الايجابي والسلبي حيث نرفع الخامل فنجعله عبقريا ً عظيما ً أو نهبط بالمبدع فنحسبه خاملا ً تافها ً ثم يأتي التاريخ، بعد موتهما أو في حياتهما، فيضع كلا ً منهما في مكانه الحقيقي ويعطيه حجمه الأدبي الواقعي، وقد قال نسيب عازار في هذا الصدد "ان كثيرا ً من نوابغ الأدباء والشعراء الذين يحتلون اليوم مكانة رفيعة في تاريخ الادب لم يسلموا في غضون حياتهم من تحامل نقاد عصرهم واستهدفت آثارهم الأدبية للطعن والذم، بل ان بعضهم قد جهل قدره كل الجهل وعاش خامل الذكر مغمور المنزلة" وازيد على نسيب فأقول ان العكس يصح أيضا ً فكم رفع بعض النقاد من منزلة الكثيرين في حياتهم وحرقوا البخور تبجيلا ً لآثار لهم ما لبثت ان توارت بعد موت أصحابها وبعد ان قام مبضع النقد الأصيل بعملياته الجراحية الجذورية والعميقة غير متأثر الا بمعطيات الرائع ومواطن الجمال والابداع.

ولست أحسب بعد أني تمكنت من الاحاطة بجميع مرتكزات الفن وبكل ما جاء به نسيب عازار من آراء حول النقد متأثرا ً، في الدرجة الاولى، بالنقد الانكلو أميركي المعاصر. وانما كانت الغاية التدليل على ان مفهوم النقد عند نسيب خاضع لمقاييس موضوعية أولا ً وذاتية ثانيا ً وليس العكس، وهي مقاييس لا بد من الاعتماد عليها للكشف على مواطن الجمال والرائع في الأثر الفني ومعاملته بواقعية تبعد به عن التبذل الموضوعي والتبذل الخيالي والميثولوجي معا ً وتقربه من فهم العلاقة الجدلية بين الذات والموضوع، وبين النقد والأثر، وأخيرا ً بين الناقد وصاحب الأثر، فلا يطغى هذا على ذلك، ولا يوضع احدهما مكان الآخر سواء بالاقلال من أهميته ودوره أو حتى بتجاوز هذا الدور ونفيه، وانما بوضع كل أمر في نصابه ورؤية كل مؤمن داخل محرابه مثلما هو وليس كما نريد نحن ان يكون.

على هذا الضوء كان نسيب عازار الناقد ينظر الى الأدب والأدباء ويقوم الأثر من شعر ونثر، وقد حافظ على مقياسه المفضل في مختلف آرائه وبحوثه كما نعلم وكثيرا ً ما انطلق من مفهومه حول النقد الى القول ان سوانا في عدد من الأنحاء والمناطق يجعلون أحيانا ً من بعض الأدباء العاديين عظماء بين العظماء فلماذا لا نقوم نحن باعطاء عظمائنا حقوقهم علينا وعلى الأدب فننظر اليهم والى عطائهم في صورة واقعية بعيدة عن الشعور بالتواضع الكاذب والخوف من اتهامنا بالاقليمية والكبرياء والغرور، ونحن انما انشأنا الرابطة الثقافية ثم المجلس الثقافي في بلاد جبيل لغايات عدة منها هذه الغاية المتجاوزة في أهميتها تاريخ منطقتنا الصغيرة لتدخل رحاب تاريخ عصر النهضة.

ودون الايغال في ما كتبه عن ادباء وشعراء كثيرين من بلاد جبيل، راحلين وأحياء، مثل مارون عبود، وسليم عازار، وامين مشرق، ونعمة الحاج، وشكر الله الجر وحنا نمر والخوري يوسف الحداد وغيرهم من الراحلين وعما اعتزمه من كتابة دراسة مطولة عن الشاعر القروي وقد يكون بدأ بها ولم يستطيع الانتهاء منها... اقول دون الايغال في هذا وفي موافقته على كثير مما كتب عن ادباء وشعراء آخرين أمثال اديب لحود، وقيصر وحيد، وفكتور خوري، ويوسف شهاب، وشاكر صعيبي، والأب انطانيوس شيلي، والشيخ حنتا خير الله، والدكتور جرجي سابا، ورفيق أبي فارس، وأسد شيخاني، وباخوس خير الله، وحسيب نمر، وفؤاد ضوميط وغيرهم سأكتفي بذكر ما كتبه قبل وفاته بأيام قليلة عن أديبين درس آثارهما المطبوعة والمخطوطة واعتبرهما رائدين في النقد والملحمة والنثر الأدبي المعاصر هما حنا نمر والخوري يوسف الحداد.

عن ملحمة الخلق لحنا نمر كتب لها مقدمة في طبعتها الأولى الصادرة سنة 1985 وجاء فيها "في الأدب العربي الحديث ملاحم قد يكون بعضها شعرا ً رفيعا ً لكنها جزأت التجربة وعكفت على جانب منها وقطعت ما بين الماضي والحاضر وفصلت الانسان الحديث عن تاريخه، وزادت بغير تعمد في مأساة التفتت والفوضى، أما "قصة الخلق" فتنفرد عنها وعن سائر الملاحم بالرؤيا الشاملة التي أشرنا اليها، الرؤيا التي تشمل التجربة والانسانية كلها... وتسم "قصة الخلق" بميسم الحداثة، وتجعل منها عملا ً ابداعيا ً جادا ً من الأهمية بمكان. (والأهمية) انما هي كامنة في غرض الملحمة، في مراميها البعيدة، ورؤياها الشاملة الجامعة الفريدة في الأدب العربي بأسره... وقد تأتى لحنا نمر في أبراز غرض ملحمته ان يفرغ عليها معنى كونيا ً لا يقل أهمية عن المعنى الذي قصد اليه جيمس جويس" (في روايته يوليسيس).

وذات مرة قرأ ما كتبته في "الأنوار" عن الخوري يوسف الحداد ثم ما قلته عنه في ندوة جبران خليل جبران في جبيل من ان الخوري يوسف وهو استاذ جبران أحد رواد التجدد في النثر المعاصر ان لم يكن رائده وقد أثر في الأدب الجبراني وغيره عميقا ً وجذوريا ً، فقال انه لكذلك وفي 2 تموز 1982 كتب في المستشفى ما يلي "الخوري يوسف الحداد موهبة أدبية لم يلق التقدير الذي يستحق. فهو في اعتقادي رائد التجديد في النثر الأدبي في النهضة الحديثة، واذا ثبت ذلك ولا بد من ان يثبت كان الخوري يوسف قمة رائدة في أدبنا المعاصر لا يتسع لي المجال بسبب حالتي الصحية ان اضع دراسة مطولة تفي الموضوع حقه ولكني أرجو ان ينصرف بعض الباحثين الى دراسته دراسة جادة مسؤولة. كل المجددين بعده تأثروا باسلوبه الفريد بصورة مباشرة او غير مباشرة. أكرر: الخوري يوسف الحداد قمة أدبية رائدة في أدبنا المعاصر".

وكثيرا ً ما كان يقول ان عندنا في جبيل ثلاثة رواد في عصر النهضة هم: مارون عبود في الأدب الساخر المعاصر وتصوير حياة القرية اللبنانية، وحنا نمر في النقد المعاصر وتصوير حياة القرية اللبنانية، وحنا نمر في النقد المعاصر ودرس شعر الحداثة وفي الملحمة العربية، والخوري يوسف الحداد في التجديد في النثر الادبي في النهضة الحديثة... ثلاثة رواد وقمم ينبغي علينا دراسة من يحتاج منهم اليها حتى نقوم بواجبنا نحو ادبائنا خاصة والادب المعاصر في صورة عامة.

واسترشد نسيب عازار الأديب بنسيب عازار الناقد، فقد كان اسلوبه عربيا ً سهلا ً ملطفا ً متجددا ً يتضمن الكثير من اصول البلاغة والفصاحة، فلم ينزع لا الى التعقيد والتقعر ولا الى الاسفاف والتبذل، وكان فيه كما في المضمون مسؤولا ً، وكثيرا ً ما ترك بحثا ً له او مقالة اياما ً واسابيع ليعثر على كلمة مناسبة مكان كلمة يراها غير ذلك، وكان يطرب كالطفل حين يعثر عليها فيثبتها معتبرا ً عند ذاك أن بحثه صار صالحا ً للنشر من حقه أن يتحرر وينطلق بعد هذا الأسر الطويل، ولعل هذه الدقة المسؤولة الى درجة المبالغة القاسية جعلته نهما ً ومكثارا ً اذا تعلق الأمر بالقراءة والمطالعة وبخيلا ً مقلا ً اذا ارتبط بالكتابة والتأليف، فقد كان كثير الاطلاع على الكتاب العربي والأجنبي قليل الكتابة والانتاج،وحين قلت له ذات يوم ان كثرة مطالعتك تسبب الاقلال في نتاجك ضحك وأجاب: انت على حق في هذا لان كثرة المطالعة لا تبقي لي وقتا ً للكتابة والانتاج فقلت: وأين التوازن في ميزان النقد عندك بين الذاتية والموضوعية حتى تترك القراءة تستهلك الكثير من الوقت المخصص للانتاج والتأليف؟ ثم قلت له ان شأنك في الادب شأن شارل مالك في امور الفكر تقرآن كثيرا ً وتكتبان قليلا ً برغم ان الكثير من هذا القليل عند شارل مالك يمكن اعادة اصوله الى فلسفة توما الأكويني وهو تكرار لها ذو مسحة حديثة مثلما تعرف رأيي فيه، فوافق على هذا وقال: لعن الله السياسة في لبنان... ليتني لم أنجرف في تيارها فتى وكهلا ً حتى اضطرت الى التخلي عنها عجوزا ً بعدما أبعدتني السنوات الطوال عن رحاب الفكر والادب فأجبت: لست وحدك في ذلك وثمة الكثيرون الكثيرون من حرقتهم هذه السياسة في أتونها اللاهب مثلما الفراشات الراقصة حول القناديل المشتعلة بعدما حولت المبادىء والعقائد الى سلع وبضائع والمذاهب والمناهج الى دكاكين وحوانيت.

في السياسة قام نسيب عازار بادوار مهمة في عهدي الانتداب والاستقلال وكاد يصبح نائبا ً عن جبل لبنان حين كان دائرة انتخابية واحدة عدد نوابها سبعة عشر لو لم يحرمه الائتلاف الذي فرضه المفوض السامي ده مارتل على حزبي اميل اده وبشاره الخوري عام 1937 مقعده ويعط المقعد الارثوذكسي منطقة اخرى عداد الارثوذكس فيها أكثر من عددهم في بلاد جبيل، ولم يدرك عقم السياسة المحلية اللبنانية بين التكتلات الشخصية المختلفة الا بعد وقت طويل فانصرف عندئذ الى شؤون الأدب انصرافا ً كليا، وفي هذا الوقت أسهم مع بعض ادباء بلاد جبيل بتأسيس الرابطة الثقافية ثم المجلس الثقافي وظل رئيسا ً لهما حتى وفاته، وأتذكر من المؤسسين معه: حنا نمر، شكر الله الجر، فؤاد ضوميط وربما سواهم رحمهم الله وجوزف الهاشم ونديم عبود وبديع شبلي واديب صعيبي ونعيم يزبك وفكتور باسيل وحليم الحاج ومنير برباري ومروان نصر وفيليب أبو فاضل وسمير شيخاني وعبلة عبد الله سكر ولويس قرداحي ويعقوب خليفه أمد الله في أعمارهم وقد يكون ثمة آخرون غابت اسماؤهم عن ذاكرتي اللعينة وقد توقف بعضهم عن نشاطهم في المجلس وانتسب اليه آخرون وفريق ثالث ما زال منتسبا ً شكليا ً لا يقوم أفراده باي عمل وان ظلوا معتبرين أعضاء فيه.

وحين جابهت الرابطة الثقافية ثم المجلس أعاصير السياسة وحاولت بعض أجهزة الدولة التدخل في شؤونه وقفنا مع نسيب عازار في وجهها ورفضنا أي هيمنة عليه مفضلين حتى اندثاره وتواريه على القبول بالهيمنة والمس باستقلاله الثقافي واصررنا على ابقائه بمنأى عن السياسة وان كان لكل من أعضائه الحق في ممارستها خارجه وبمعزل عنه، ولعل هذا الواقع كان وراء ابقائه تجمعا ً ثقافيا ً يوحد فلا يفرق وينصرف الى نشاطه الفكري بعيدا ً عن الاستغلال السياسي والمآرب الانتخابية ورافضا ً كل محاولة لجره اليها أو جرها اليه.

ويطيب لي هنا التأكيد ان نسيب عازار لم يشترك في تأسيس أي تنظيم ثقافي آخر غير الرابطة والمجلس الثقافيين في بلاد جبيل. كما لم ينتسب الى غيرهما برغم الجهود التي بذلها بعضهم لحمله على ذلك أو لحمله على الانتساب الى حزب ما وقد حاول بعض أصدقاء له من الأدباء الملتزمين، وكل ما يقال خلاف هذا بعيد عن الحقيقة باستثناء انتسابه في شبابه الى بعض الأحزاب الانتخابية التقليدية في جبل لبنان وكاد ان يصبح نائبا ً عن أحدها لولا ائتلاف ده مارتيل كما ذكرنا، وفي هذا أرى انه لا يجوز استغلال الرجل في مماته وقد كان يرفض هذا الاستغلال في حياته، فلا يقدم على شيء الا عن قناعة نابعة من الذات نفسها حيث الالتزام الأصيل شعور أو صدق داخلي في الأساس وليس اشكالا ً في المظاهر الخارجية التي قد يكون بعضها او الكثير منها خداعا ً كاذبا ً ومرائيا ً.

واذا لم أتناول روايته "منشود" الصادرة عن دار المكشوف عام 1955 لانها في حاجة الى دراسة خاصة فلا بد لي من قول كلمة عامة حولها وهي ان هذه الرواية، وقد تأثر مؤلفها بتقنية تورغينيف وروح دوستويفسكي وتجاربه العميقة كما يقول هو نفسه، تعتبر من الأعمال الروائية المعاصرة التي يؤبه لها. وقد أفرغ عليها كثيرا ً من تجاربه ومعاناته الذاتية واستطاع ان يحولها الى تجارب ومعاناة انسانية عامة ولبنانية خاصة، والفنان الأصيل من قدر ان ينقل معاناته الجزئية الى المعاناة الشمولية أو بالعكس موحدا ً بين التجربتين في صورة جدلية تتغلغل في الروح الانسانية وتمتزج بها حتى لتبدو التجربتان وكأنهما واحدة، هذا بصرف النظر عما تؤدي اليه معاناته من ايمان او الحاد ومن سكينة واطمئنان أو ثورة وقلق واضطراب، اذ لكل حالة شروطها الموضوعية ومناخاتها الواقعية، وكثيرون وصلوا في تجاربهم أو في تجارب غيرهم بعدما عاشوها وحولوها جزءا ً منهم الى الايمان او الالحاد والى السكينة او القلق، فنرى نسيب عازار في "منشود" - وهو وحيده الصغير الذي فقده قبل ان يأتي الى النور وحيده الآخر المحامي بولس أمد الله في عمره - يصل الى الايمان من خلال الألم، تماما ً كما فعل اواخر أيامه أو ساعاته اذ كتب الى المطران جورج خضر يطلب اليه ان يصلي لأجله ويعترف له بانه الانسان الخاطىء... يقول في وصف ما يسميه مخائيل نعيمة في كلمته بالرواية الاشراق أو الانكشاف وقد اعجب بقوله جريا ً وراء نزعته الحلولية والصوفية "وبغتة أحسست كأن قوة غير منظورة" قد استولت علي. وفي لحظة علوية عجيبة مباركة أتاني اليقين، وعرفت الله، وجثوث من فوري على ركبتي، وصرخ قلبي من أعماقه" ويقول في مكان آخر "تسألني عن الايمان والألم! لعمري ما كان الألم الا سلما ً أوصلني الى الايمان!... ". الألم عند فقده منشودا ً أوصله الى الايمان، وفي ساعات الألم العميق والضعف الشديد كثيرا ً ما يتخلى الانسان عن منطقه وعقلانيته ويستسلم الى الايمان بشيء يتوخى منه، ولو بدون نتيجة، انقاذه مما هو فيه... انها تجربة انسانية تشمل الكثيرين كما يتمرد عليها الكثيرون، وقد وفق نسيب عازار في تحويلها أثرا ً فنيا ً في "منشود" ثم جعلها سلوكية عملية له في آخر ساعاته حتى أنك تشعر بحيويتها وواقعيتها برغم موافقتك او عدم موافقتك على رأي صاحبها وسلوكه وبرغم تعليلك ذلك بهذه النظرية أو تلك، فالفن الأصيل يكون موفقا ً في ابراز الصور الحياتية الواقعية مهما كانت نظرتك اليه واليها، فليس شرظا ً في أفكار المبدع ان توافق أفكارك حتى تعترف بابداعه وتقر بدوره او العكس، حسب الفن الاصيل انه لكذلك برغمي وبرغمك، وحسبنا جميعا ً ان نكتشف مواطن الجمال فيه بعيدا ًعن وجهة نظر الفنان الفكرية من واحدية مثالية ومادية أو ثنائية تائهة بين هذه وتلك، وحين ندرك نأثر نسيب عازار في صورة خاصة بدوستويفسكي وتولستوي وبرداييف وبنظرتهم اللاهوتية الخاصة ثم بنظرتهم الى الذين حيث يعتبرونه على خلاف ما تجري عليه مؤسسته وسلوكية حملة لوائه الرسميين والمعترف بهم ندرك جيدا ً كيف وطد الألم من ايمانه، وكأن هذا الألم شرط لا بد منه للوصول الى الايمان او كأن الفرح والسعادة واللذة لا توصل الى الايمان.

المهم في نسيسب عازار الروائي والاديب والناقد انه كان صادقا ً مع نفسه وهو يرى مثالا ً له في هذا عند دوستو يفسكي حيث يقول عنه "ففي روائع دوستو يفسكي مثلا ً لا تستطيع ان تفصل بين الفلسفة والفن، بل لا تستطيع ان تفصل بين الفكر والشعور، وعند هذا الاديب العبقري بالاضافة الى مزاياه الفريدة حرارة قلب ما أظن انك تصيب ما يشابهها عند غيره من أدباء العالم".

ولد نسيب عازار سنة 1904، والده بولس عازار ووالدته حميدة هزيم، وفي طفولته خلال الحرب العالمية الاولى فقد والده وعاش يتيما ً برعاية الوالدة التي سهرت على تربيته ومتابعة تحصيله وادارة الاملاك الواسعة دون استعانة بأحد حتى لقبت "بأخت الرجال"، وعائلة هزيم التي تنتمي اليها حميدة والدته قدمت رواد الثقافة في منطقتنا "القرنة" منذ اوائل القرن التاسع عشر، فمنها رائد المسرح الزجلي اللبناني بو حبيب (مخايل جريس) ومنها الشاعر المهجري قيصر وحيد استاذ الشاعر القروي ونسيبه الشاعر المهجري نعمة الحاج وغيرهم، ومعظم ادبائنا وشعرائنا في القرنين التاسع عشر والعشرين في هذه المنطقة يمتون بنسب الى "بو حبيب" سواء لجهة الأب أم لجهة الأم.

درس نسيب أولا ً في مدرسة الفرير بالبترون ثم تخرج من الجامعة الأميركية عام 1923 وقبل تخرجه منها برز اهتمامه بالفكر والادب والسياسة تشهد على ذلك اسئلته الكثيرة التي اعتاد ان يوجهها الى ادباء المنطقة طالبا ً اجوبتهم عنها وهي تتناول الأدب والفكر والتربية والتعليم والسياسة وشؤون المرأة والقومية والاستقلال والانتداب وما الى ذلك، ولدينا بعض المخطوطات عن الاسئلة والاجوبة كما في مكتبته الكبيرة والغنية ومخطوطات اخرى.

رغم صغر سنه شارك في اجتماعات الحركة العلمانية في بلاد جبيل وهي المعتبرة رائدة العلمنة في تاريخ لبنان الكبير، وكان من طروحاتها، عدا فصل الدين عن الدولة وما تنص عليه العلمنة في الغرب، ان يسمى اللبنانيون باسماء بعضهم بعضا ً فلا تقتصر اسماء معينة على طائفة واسماء اخرى على طائفة ثانية فلا يعرف مذهب الانسان من اسمه أو هويته، وعلى هذا سمى مارون عبود ابنه الثاني محمدا ً وحنا نمر ابنته الثالثة من أولاده فاطمة؛ وكانت اجتماعات هؤلاء تعقد غالبا ً في منزل جورج شيخاني (عباس) في شيخان ويحضرها عدا صاحب المنزل: الدكتور جرجي سابا، ونسيب عازار، وحنا نمر، ومارون عبود، واديب غرزوزي والشيخ حنا خير الله حين تمكنه صحته من ذلك وغيرهم ممن لا أتذكر اسماءهم.

انتخب عير مرة عضوا ً في المجلس الملي الارثوذكسي في أبرشية جبل لبنان.

اشتغل في السياسة اللبنانية عهد الانتداب وكاد يصبح نائبا ً لولا ائتلاف ده مارتيل 1937 الذي قسم المقاعد النيابية بين حزبي اميل اده وبشارة الخوري، كما تابع العمل السياسي في عهد الاستقلال حتى عرف حقيقته فتخلى عنه وانصرف الى الادب والثقافة.

عام 1951 عين مفتشا ً للتربية الوطنية ثم استقال من منصبه حين وجد نفسه معرضا ً للتدخلات السياسية ومضطرا ً الى دفع الثمن من كرامته فيما لو استمر يشغله أكثر مما فعل.

كان أحد مؤسسي الرابطة الثقافية في بلاد جبيل سنة 1961 ثم المجلس الثقافي وظل رئيسا ً لهما حتى وفاته، ووقف مع كثرة الاعضاء في وجه جميع الذين أرادوا التدخل في شؤونه وفرض هيمنتهم وشؤونهم الانتخابية عليه، فكان ان صانوا استقلاليته ودوره الثقافي المميز، ولست أنسى ما قاله لأحد المتدخلين من رجال مؤسسة رسمية وقد طلب منه شيئا ً ما: نحن هنا مجلس ثقافي ولسنا موظفين في دائرة حكومية.

له "نقد الشعر في الأدب العربي" صادر عن دار "المكشوف" في 25 حزيران 1939. ورواية "منشود" صادرة عن الدار نفسها في كانون الأول سنة 1955، كما له بحوث ومقلات كثيرة منشورة ومخطوطة في النقد والأدب والدراسة وغيرها.

توفي يوم الأحد في 11 تموز 1982 بعد آلام قاسية تحملها صابرا ً وقد ترك بعده فراغا ً من الصعب ان يملأه أحد.

بلغ من شأنه في النقد ان كلمته كانت القول الفصل تقريبا ً عند اصدقائه وخصومه معا ً، وقد قال لي فوزي سابا وكان معه على خلاف شديد حول بعض الأمور حين حدثته عن رأي نسيب عازار في الملحمة العربية: اذا كان هذا رأي نسيب فهو الصحيح لأنه على اطلاع عميق في شؤون النقد المعاصر وهو يعرف ما يقول ومسؤول عما يقول.

ثمة الكثير الكثير مما استطيع قوله عن نسيب، واذا كنت اكتفي بما تقدم فلن أنسى التحول الكبير الذي طرأ عليه حتى أيام قليلة من وفاته وقد اعتدت ان أعوده باستمرار حين استبد به المرض وقضى شهوره الأخيرة متنقلا ً بين منزله في غرزوز وآخر في جبيل استأجره شتاء هربا ً من برد غرزوز وبين مستشفيات الجامعة الاميركية والقديس جاورجيوس والخوري في بيروت وسيدة المعونات في جبيل دون ان يتمكن الطب، برغم تقدمه، من شفائه وتخفيف آلامه وأوجاعه، وقد كانت زوجته ماري لويز أبو كرم ترافقه في ترحاله وتسهر عليه وعلى صحته ليل نهار دون تبرم أو ضيق وهي ونحن على أمل أن يعود يملأ البيت من قهقهاته الطفولية ويعكر سكونه المطبق بوقع خطواته المكينة وهو يردد ما قاله أعرابي لآخر عندما رأيا أجمل امرأة في مكة تغزل بها عمر بن أبي ربيعة وقد تحولت عجوزا ً يرتجف جسدها من ضعفه اهتزاز أوراق الخريف وتنطلق في دروب مكة حانية الظهر متكئة على عصاها التي تكاد تحملها: سبحان الله ما تفعل الدنيا بأهلها!

وعائلة أبو كرم في وجه الحجر بلاد البترون التي تنتمي اليها زوجته عرف أفرادها بنشاطهم السياسي والاجتماعي ولا سيما في المهجر، وأحدهم أسعد كاد يصبح رئيسا ً لجمهورية الأكوادور عن طريق الانتخابات لو لم يقم الجيش بانقلابين عسكريين للحؤؤل دون ذلك، وكان رئيسا ً لحزب الاكثرية وهو حزب شعبي يدافع عن حقوق الشغيلة والكادحين والفئات الوسطى ضد هيمنة اليمين المتطرف الذي تسانده وتدعمه القوات المسلحة.

وقبل وفاته بشهور استبد به حدس عجيب وكأنه عرف عن طريقه ان نهايته قد اقتربت، وعبثا ً كنا نحاول، زوجته وابنة وأنا، صرفه عن التفكير بهذا الحدس العجيب، فما أن تهدأ وساوسه قليلا ً أمام عباراتنا وعبارات الاطباء المطمئنة حتى يعود الى قلقه والتمسك بحدسه ساعيا ً الى رؤية من يستطيع من أصدقائه ومعارفه وأنسبائه وفي داخله شعور أكيد بانها الرؤية الوداعية، كما حرص على زيارة من هم معه على بعض الخلاف كي يموت وليس له خصوم او كارهون أيا ً كان مسبب الخلاف والخصومة.

وآخر يوم رأيته فيها كانت قبل غروب شمسه وشمس ذلك النهار من تموز بأيام قليلة، فقد جلست أعالج قصبة لصيد الاسماك على الشرفة الشرقية من منزلنا في شيخان، واذا بسيارة قديمة سوداء اللون تقف أمامي فجأة وأرى في داخلها نسيبا ً يريد ان يحدثني وقد عجز عن السير تماما ً الا اذا اتكأ على شخص أو شخصين. وما أسرعت اليه أدعوه الى كأس من الجعة وقد أخذ يحتسيها بكثرة آخر أيامه حتى أخذ نسخة من كتابه "نقد الشعر" وقدمها الي مرددا ً ثلاثا ً: احتفظ بها في مكتبتك... لا تفرط بها... انها آخر أثر أدبي مني اليك... ثم اعتذر صامتا ً عن عدم قدرته على الهبوط من السيارة وصعود سلم المنزل وقال: أتمنى لك حظا ً سعيدا ً في هوايتك صيد الاسماك غدا ً صباحا ً!.. فقلت بصوت خافت: بل فجرا ً يا أخي نسيب ومنذ الساعة الرابعة حين يبين الخيط الابيض من الخيط الاسود! .. في كل حال سأزورك غدا ً في غرزوز للاطمئنان الى صحتك فأجاب: ربما لن اكون اذ يصرون على نقلي مجددا ً الى المستشفى وأنا أمانع، لقد كرهت المستشفيات، وكرهت العلاج والدواء، وصرت لا أهفو الى رؤية الاطباء، ارأيت: سبحان الله ما تفعل الدنيا بأهلها.

ولما عبرت أدراجي قلت هامسا ً لمن كان هناك: ان نسيبا ً على ما يبدو جاء يودعنا جاء يودعنا قبل الشروع برحلته الأبدية الطويلة.

وهكذا كان، فقد نقل الى مستشفى القديس جاورجيوس ثم أصر على العودة الى منزله قبل وفاته بليلة واحدة وكأنه شعر بدنو أجله فأحب ان يموت قرب مكتبته العامرة الغنية وفي ملعب طفولته ومكان ذكريات فتوته وشبابه وكهولته وشيخوخته.

لم أشاهده بعد ذلك الا مسجى في غرفته ونظرته النافذة الجامدة تحاول أن تسبر غور المأساة الانسانية والكشف عن مشكلة الموت والحياة، فهل يتمكن من الأمر بعد وفاته وقد عجز عنه في حياته وليس بعد هذه الحياة حياة في ملتي واعتقادي؟

لشد ما نذكرك ونتذكرك يا نسيب عازار!

نسيب نمر
Tue Aug 26, 2014 8:13 am View user's profile Send private message Send e-mail Visit poster's website
Display posts from previous:    
Reply to topic     discoverlebanon.com Forum Index » لبنان ... باللغة العربية
   
Page 1 of 1

 
Jump to: 


 
 
  Panoramic Views | Photos | Ecards | Posters | Map | Directory | Weather | White Pages | Recipes | Lebanon News | Eco Tourism
Phone & Dine | Deals | Hotel Reservation | Events | Movies | Chat |
Wallpapers | Shopping | Forums | TV and Radio | Presentation


Copyright DiscoverLebanon 97 - 2020. All Rights Reserved

Advertise | Terms of use | Credits