Back Home (To the main page)

Souvenirs and books from Lebanon
 

Sections

About us

Contact us

 
 
SearchFAQMemberlistUsergroupsLog in
Saint Charbel words

 

 
Reply to topic     discoverlebanon.com Forum Index » لبنان ... باللغة العربية
  View previous topic
View next topic
Saint Charbel words
Author Message
admin
Site Admin


Joined: 09 Mar 2007
Posts: 529
Location: Jbeil Byblos

Post Saint Charbel words Reply with quote
من كلمات الاب شربل حبيس عنايا
مقدمة بقلم الاب بولس ضاهر اللبناني

تمهيد


الا وقفة معي بالفكر، أيها القارىء الكريم على جبل عنايا. دع عينيك تمرحان على تلك القمة العالقة بالسماء كأنها مذبح يرتفع بين الزمن والأبدية. ان الطبيعة حولك لساحرة، فتانة. فروعة الوادي العميق، وعظمة الجبال الشامخة، ورهبة الآفاق السحيقة وراء البحر الشاسع، كلها ذوب من السحر ترشفه العين ولا ترتوي.

حط التفاتتك في الديرالقريب، والمحبسة المجاورة، وغابة السنديان، والكروم الهاجعه حولك: فعلى كل حجر أثر، وفوق كل غصن خبر، وفي كل حفنة تراب درر، بذرتها أصابع زاهد عجيب، عاش طوال نصف جيل، على مرأى ومسمع من تلك الارجاء المغمورة بنور من الأبدية. لا تزال هذه البقعة الملتحفة بوشاح السكينة الناطقة حافظة أجمل الذكريات. فسلها تحدثك عن مرئياتها الغابرة.

أصغ الى حديث الدير عما رأى، والى همس ما انطوى في خاطر المحبسة. عرج على الحقول، واستنطق الغصون، ونفح الدوالي، وأيقظ المعصرة والصخور والشعاب.

لج المحبسة ببط ء، وقف في كنيستها بخشوع، وتأمل بما تخطه يد السكينة حولك. سل الشمعدان القديم، والشحيم الكبير، كم ساهرا الحبيس في هجعات الليالي، وتأمل صورة العذراء، والرسولين كم تصعد اليهما من أنات وتنهدات وزفرات. سل المذبح وبيت القربان كم سمعا من تمتمات مترعة بالحب والايمان والرجاء؛ وكم شهدا من لقاء عجيب بين الحبيب والحبيب! سل الكأس كيف ارتفع بين يدي الحبيس وكيف تسمرتا عليه قبيل بلوغ الاجل، وفيه دم الحمل، وكيف كان اللسان، ترجمان الجنان، يتلو نشيد الختام: يا أبا الحق... هوذا القربان..."

سلها وسل كل هنة وترابة من تلك الصومعة وما يجاورها، تجبك في صمتها بألف لسان: أنت على جبل مقدس تكتنفك أسرار وأرواح، وترف حولك أجنحة سماوية بخفقات آتية من أعماق الأبدية. هذه المنطقة قد أطلق عليها الأقدمون اسماء الاراضي المقدسة:

فأنت على جبل طابور، والى يمينك بيدر أرام اليابوسي، والى شمالك مار يواكيم، وأمامك بيت عنيا (عنايا )، وقربها صخرة قيافا. في القدس قد تم سر الفداء، وعلى هذه الجلجلة الجديدة قد تم سر قداسة شربل الحبيس!

سل خاصة أولئك الشيوخ، في الدير وجواره، من معاصري رجل الله، عما سمعوا ووعوا من كلماته النادرة، عبر حياته الممعنة في الصمت والخفاء، والتي أصبحت حديث الدنيا. سلهم وأكثرهم لا يزال حيا ً، فيرووا لك ما سمعوا من كلمات شربل كما رووه لي فدونت بعضه في هذه اللمحة، مع تعليق موجز عليه، خدمة للتاريخ وللنفوس، وتمجيدا ً الله تعالى.

لم يدع الله الأب شربل مخلوف ليكتب بل ليتقدس عن طريق النسك، بالعمل الصامت والصلاة المتواصلة والتأمل الدائم. فهو لم يترك لنا، مثل كثيرين من آباء الكنيسة، كتابات لاهوتية أو نسكية، أو اعترافات أو مذكرات عن حياته الباطنية.
فشربل الحبيس، على مثال معلمه الالهي، لم يكتب الا على قلوب سامعيه. وقد غمس قلمه في قطرات حبه ودمه. "وليس من يكتب بالحبر كمن يكتب بدم القلب".

وما زال الى هذه الساعة، في صمته الأبدي، يخط بقطرات دمه النازفة من جسم مستعص على الفساد صفحات عجيبة تنسكب منها هبات الشفاء للأنفس والأجساد. لم يكن في مستطاع أخوته ومعاشريه ان يلجوا بستان روحه الخفي الا من خلال كلمات نادرات، كانت تتساقط اضطرارا ً عن شفتيه. وهي باقية لنا كنزا ً ثمينا ً، ودستورا ً قويما ً لبلوغ القداسة والكمال. كلمات، في كل عبارة منها حكمة، وفي كل مقطع قبس، بل جزء من روح كانت تستطيع القول بحق مع الرسول:
"لست أنا الحي، بل المسيح حي في".

"اذا أحببتم أن تخلصوا بسهولة تعبدوا لمريم العذراء. فهي الكفيلة بخلاص من يتعبد لها"

ان الأب شربل مخلوف قد ورث عبادة العذراء وارتشف محبتها من ينبوعين: بيته ورهبانيته. قد نشأ الاب شربل في بيئة وعيلة قد تجسمت عبادة مريم العذراء في عاداتها، وأخلاقها وأقوالها. كم رافق شربل الصغير، وكان اسمه يوسف، والدته بريجيتا الى الكنيسة لحضور "زياح الصورة" وخاصة في شهر ايار المكرس لعبادة العذراء! كم كانت تؤثر في روحه الفتية المختارة هذه الكلمات الحلوة: "يا أم الله، يا حنونة..." وباقي الصلاة الطقسية؟ كم حضته أمه على محبة مريم بقولها: "من كان للعذراء عبدا ً، لن يدركه الهلاك ابدا ً" كم جلس الى جنب والديه واخوته مساء ً حول الموقد لتلاوة مسبحة العذراء وطلبتها؟

فاذا كان للتربية اليد الطولى في صوغ الحياة وتوجيهها، فشربل قد تربى على روح التقوى والتعبد لمريم. وما كانت الرهبانية الا لتنمي في روح ولدها التقي هذه العبادة التي لها المنزلة الفريدة والمقام الرفيع في تقاليد الرهبانية وعاداتها وطقوسها. يكفي الاب شربل انه تتلمذ على رجل الله الحرديني، "قديس كفيفان" والمولع الشهير "بأمجاد مريم"، حتى ترسخ في قلبه وروحه محبة العذراء المجيدة. ويكفيه ان يرد في نص قداسه الماروني ذكر العذراء خمسين مرة!! اما في باقي صلواته الطقسية فتذكارات العذراء لا تحصى.

ان الأب شربل الذي ترك امه وحرم نفسه طوعا ً من مشاهدتها حتى عندما جاءت لتزوره في الدير، كان لا بد له من الاستعاضة عنها بام اشد حبا ً وحنانا ً. وما كان احب اليه واحن من امه السماوية.

كم ناجاها في ساعات الآلام وفي هجعات الاليالي! كم استغاث بها عند الضيق، وكم أنشد بثقة وحب وايمان: يامريم أم الرحمة ارحميني!!

هذه الثقة العظمى بمريم، هذا الاستسلام البنوي الكامل لحبها الأعظم، كانا يملآن قلب الاب شربل وروحه. فلا عجب اذا فاه بهذه الكلمات لزائريه: "اذا أحببتم ان تخلصو بسهولة تعبدوا لمريم، فهي الكفيلة بخلاص من يتعبد لها". كان ذا ايمان أثبت من الجبال بأن لا خلاص له ولسواه بدون مساعدة مريم. لذلك كان متمسكا ً بعبادتها تمسك الغريق بالخشبة، فما كانت سبحتها الوردية تفارق أصابعه، ولا اسمها يفارق شفتيه، ولا حبها قلبه. وشهد الذين حضروا ساعاته الأخيرة انه كان يردد بحرارة وايمان يا يسوع ومريم ومار يوسف. ولا شك في أن هذه الأم السماوية قد تسلمت روح عبدها الأمين شربل ومجدته في السماء حيث هي جالسة عن يمين ابنها في مجده الخالد.

"ان شاء الله سوف نرى بعضنا في السماء مدى الأبدية"

هذا جوابه لوالدته يوم جاءت الدير وطلبت مواجهته. فخاطبها من داخل الكنيسة دون ان يراها او تراه. ربما كان هذا التصرف في نظر الطبيعة ضربا ً من الجفاء والخشونة. كيف يمنع من رؤيته من هي أقرب الناس اليه وأفضلهم عليه، وقد جاءت من مكان بعيد لزيارته؟ انه لم يفعل ذلك الا بغية ان يعطي والدته وغيرها مثالا ً للتغلب على كل عاطفة او شعور طبيعي، والتوجه بالعقل والقلب الى الله غاية الانسان وسعادته في هذه الدنيا وفي الآخرة.

وهنا تبدو فضيلة الايمان والرجاء اللتي عاش بها الاب شربل، ورسخت في ذهنه كل الرسوخ بحيث حق له أن يقول مع الرسول: "ان حياتي هي المسيح، وان مت فذلك ربح لي". وتلك الفضائل الالهية الثلاث، الايمان والرجاء والمحبة كانت تتلألأ بكل بهائها في رجل الله هذا فتراه عائشا ً وسالكا ً بالجسد على الأرض، لكن عقله وقلبه وافكاره جميعها في السماء. فقد حرم نفسه رؤية والدته ومنعها من مشاهدته موقنا ً بهذا الايمان المتين والرجاء الوطيد انه سيجتمع بها يوما ً في السماء. وبهذا دليل على أنه لم يرفض مشاهدتها هنان الا ليراها هناك.

كأني به وهو يحادثها من داخل الكنيسة يلقي عليها ارشادا ً ويفهمها أن تعيش العيشة المسيحية بالتقوى الصحيحة التي تجمعها به في سعادة الطوباويين في السماء. فانها وان رجعت الى بيتها حزينة كئيبية، فقد أثر بها كلامه هذا كل التاثير، واحيا فيها روح الايمان الحي، وأوعب قلبها عزاء ورجاء بالله حتى عاشت عيشة صالحة استحقت بها الحصول على ميتة صالحة جمعتها بولدها الابر في الفردوس السماوي.

"ان الراهب اذا ذهب الى قريته وعاد الى ديره وجب عليه ان يترهب من جديد"

هذا الكلام وجهه الى رهط من أقاربه ومعارفه جاءوا من بقاعكفر، غب سيامته كاهنا ً، يلحون عليه بالذهاب معهم لزيارتهم.

ربما ظهر في كلامه هذا بعض المبالغة. لكن الحقيقية في ما يقول. انعجب من قوله هذا وهو المولع بقراءة كتاب الاقتداء والتمسك بكلامه: "ان الراهب الخارج من ديره هو كالسمكة اذا خرجت من الماء فانها تموت". وهذا ما يدلنا على اعتقاده وتمسكه الشديد بوحدته وانسلاخه التام عن العالم والأهل معتقدا ً ان الراهب في ذهابه الى زيارة أهله لا بد من أن يتعرض لأسباب عدة تعكر عليه صفو وحدته، وتعرقل سيره في طريق كماله، وربما عرضت به ايضا ً الى فقدان دعوته المقدسة. يقول صاحب الاقتداء: "من أحب التقدم في الحياة الروحية وجب أن يعتزل الناس ويمكث وحده مع يسوع المسيح" (ك1 فصل 20) .

وبما أن لرجل الله الأب شربل هدفا ً ساميا ً هو الكمال بأعلى درجاته توخاه عن طريق الاعتكاف في صومعته مستغرقا ً في التأمل بمناجاة الله تعالى منصرفا ً للصلاة والعمل اليدوي، فلم يكن يرضى ان ينقطع ساعة عن طريقته هذه التي عقد القلب على ملازمتها مدى الحياة. وأبت عليه نفسه الكبيرة السابحة كالنسر في الاجواء العلوية ان ترجع فتسف على وجه الأرض جانحة الى أميال الطبيعة البشرية وجواذبها. وهو بقلبه المضطرم بحب الله، يأبى أن يجعل فيه قسما ً لغيره تعالى، ويشق عليه جدا ً ان يرجع خطوة واحدة الى الوراء ولا شك أنه في كلامه هذا: " اذا خرج الراهب من ديره، التزم أن يترهب من جديد"، كان ذاكرا ً ما قاله صاحب الاقتداء:" أني ما خرجت مرة الى العالم الا عدت رجلا ً منتقصا ً".
على هذا المبدأ، وبارادة عزومة تسندها النعمة الالهية استمر كل حياته الرهبانية ممتنعا ً عن مواجهة ذوي قر باه، وعن زيارة قريته. وهذا لا يعد شيئا ً في نظر هؤلاء أبطال القداسة وان اعتبر في نطر الطبيعة شيئا ً عظيما ً.

كلمته عندما استغاث به رفاقه من الحية الوائبة عليهم: "لا تمسوها"، ثم تقدم وأمر الحية: "اذهبي من هنا"- فأطاعت-

كان رفاق شربل يشتغلون في كرم المحبسة واذا بحية رقطاء تنسل بين الشعاب صافرة مرعبة. راحت تطاردهم محاولة الوثوب على أحدهم. خافوا وعجزوا عن النجاة منها. وكان شربل يشتغل على رمية حجر منهم. واذا بالجميع يدعونه مستغيثين:" يا بونا شربل عجل!"

دنا شربل بخطوات مطمئنة ووجه هاديء، وقال: "دعوا الحية، لا تمسوها باذى". ثم تقدم من الحيوان الكاسر، وأعين الجميع شاخصة اليه بدهشة، ورفع يده مشيرا ً اليها بلهجة الآمر الواثق من نفسه: "اذهبي من هنا". أطاع الحيوان للحال وأنسل بسكون. وظل شربل رافعا ً يده الى أن توارت الحية بين أدغال الغابة!

وكأني بالحية قد خجلت من نفسها عندما رأت هذا الانسان لم يأتها بعصى أو حجر بغية قتلها، بل جاء يسطو عليها بعاطفة المقتدر الشفيق، راح يشمل الجاني بعفوه ويشفع بخلاصه. وكأنها عقلت أن سمها لأعجز من أن ينال من رفق الآمر وحنانه، فانسلت هيبة واحتراما ً عند سماعها: "اذهبي من هنا". أمضي! ألا تخجلين؟ أما آن لك ان تنسي الكلام الذي سمعت منذ الخلق: "وأنت ترصدين عقبه وهو يسحق رأسك"، وتعلمي أن شريعة السن بالسن والعين بالعين قد نقضتها شريعة الرحمة والمحبة؟ أنت خليقة الله. وما خلقه الله فهو حسن. فاذهبي.

عجبا ً كيف دنا هذا الراهب من الأفعى غير مبال بأذاها، أعزل اليدين، دون خوف أو تردد؟ ألم ترعبه رؤية هذا الحيوان الذي يخافه الانسان طبعا ً ويتطير منه خشية أذاه؟ من اين كانت له هذه السكينة والطمأنينة والثقة بالنفس؟

لم يكن شربل حاويا ً ولا ساحرا ً ولا ملاكا ً. بل كان انسانا ً ضعيفا ً نظير رفاقه يخشى الخطر ويخاف الأذى. انما جاء مدفوعا ً بعاملين كانا يملآن روحه وقلبه: عامل الطاعة السريعة لدعوة رفاقه، وعامل المحبة الصادفة لأغاثتهم، ولو عرض بنفسه للخطر. وهل كان الله ليبخل بمعجزة مكافأة لهاتين الفضيلتين؟ فقد نزع الخوف من قلب عبده المطيع، وجعل الحية تتغلب على غزيرتها، وتفهم كلامه، وتمتثل أمره وتمضي.

أما كان نظر المخلص له المجد يخترق الأجيال محدفا ً بعبده شربل عندما قال: "يحملون الحيات، وان شربوا سما ً مميتا ً فلا يؤذيهم"؟

كان الأب شربل يشتغل في الحقل على رمية حجر من الأخ بولس المشمشاتني. واذا به يصرخ ويستغيث كطفل صغير. أسرع الأخ المذكور، فوجده هادئا ً ساكنا ً. فعاد الى عمله. وما عتم أن سمعه يعاود صراخه، فتقدم وقال له: لم هذا الصراخ؟ ما بك، قل لي. أجاب الأب شربل بصوت منخفض جدا ً: أتتني تجربة فضايقتني".

من الأسلحة التي كان شربل يحارب بها جسده والعالم وابليس عمله الدائم في الحقل. لقد كان، وهو الكاهن العالم الجليل، يشتغل مثل آخر عامل أو أجير في الدير. هذا العمل المقرون بالصوم والصلاة والسهر والرقاد على الحضيض سلاح فعال أقهر التجارب. وكأن ابليس قد شعر بعظمة هذا المجاهد على مثال القديس أنطونيوس الكبير، فراح يحشد جنوده لمنازلته. لقد اختار البرية لكي يثب عليه، كما اختارها ليجرب السيد المسيح. وراح الشرير يوسوس لشربل: عد، يا شربل، عد الى العالم. انك لواهم في السعادة التي تنشد بعيدا ً عن أمجاد العالم وملذاته، عد، فان لم تفعل ، فأنت متكبر، خائف من سخرية الناس، متهرب من المسؤولية، متطير من المجتمع، راغب في أشباع روح الأنانية فيك والعيشة الفردية. أن في العالم لملذات قد حرمت نفسك منها، وجئت لتنحر ذاتك في هذه الوحدة المظلمة القاسية. أما لك نفس تطمح للمجد والرفعة، وقلب يتسع للحب والغرام نظير غيرك؟

شعر شربل بضعفه أزاء عدوه الماكر، وازاء هذه التصورات الخداعة، فصرخ مستنجدا ً بمن صرع العدو لكي يعلمنا كيف ننتصر عليه، صرخة تدفقت من أعماق روحه وقلبه المشتعل بحب الله: الهي! أني أحبك من صميم روحي، ولا أحب خيرا ً سواك. فهلم الى أغاثتي، يا صخرتي وعوني ورجائي. اللهم، لا تدخلنا في التجارب لكن نجنا من الشرير. ولا شك في أن شربل قد سمع اذ ذاك كلام يسوع المملوء عزاءً: انه سيكون لكم في العالم ضيق لكن ثقوا، أنا غليت العالم".

بعد عودة الاب شربل من سفر الى فتوح كسروان ليصلي على أبناء الشيخ سلوم الدحداح المرضى، سأله الخوري مخايل أبي رميا:" هات خبرنا عن رحلتك، يا أبونا شربل، ماذا شاهدت وسمعت في طريقك؟ أحابه: "رحت من هون رايح ورجعت من هون جاه"

ان شربل الحبيس الذي عقد القلب على الثبات في عزلته حتى الممات، والانقطاع بكليته الى التأمل بالسماويات، ما كان ليرضى بمغادرة صومعته لو لم يأمره رئيسة بذلك وير ذهابه عائدا ً لخير القريب. ومع هذا، فما همه اذا مضى وهو حامل عزلته في قلبه؟

هي ذي الطريق أمامه... سيمشي طيلة نهاره، سبحته في يده وقلنسوته مسترسلة على عينيه، لا يرى من الدنيا ألا مكان يضع أقدامه. ما له والدنيا وما فيها؟ أجل، ان الطبيعة حوله ساحرة بجمالها، فتانة بمناظرها. ولكنه عالم "كم خالقها أجمل منها"...

"هات خبرنا عن رحلتك، يا شربل، ماذا رأيت وسمعت، وما أعجبك؟" سؤال هدفه الفضول والتلهي بالقشور دون اللباب. والجوهر الفرد في نظر شربل هو انصراف النفس بجملتها الى محبة الله وتمجيده والتأمل بكمالاته. وما زاد على ذلك فباطل. وبالتالي، ألا يعلم السائل أنم الحبيس مقيد بقانون الصمت وأماتة الحواس؟ هل يسأل من جعل نفسه أعمى أصم عما رأى وسمع؟ أو يسقط الحبيس في تجربة التبسط في الكلام عن سفره شأن العائدين للمرة الأولى من المدينة؟ وهو لم يتهرب من اجابة السائل، اذ عدم الجواب له جواب. "فاذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب". ومع هذا، فمراعاة لشعور محدثه، قد أجاب بهذه الكلمة التي لا تخلو من الفكاهة والمداعبة: لقد ذهبت من هنا وعدت من هناك.

لقد سافرت وعدت على الطريق نفسه. وكل سفر على هذه الفانية زائل، ان هو الا رمز الى السفر نحو الابدية. فأن نوجد في الله ونحيا به، ونحمله في قلوبنا ونمضي ذلك قبل كل وجود وفكر وكلام!!

"خدلك هادا"
قدم زائر تقدمة من دراهم للحبيس فرفض قبولها ولكن الزائر الح بقوله أنه يقدم نذرا ً للمحبسة. فمد شربل يده وتناول الدراهم دون أن ينظرها، وذهب، ويده لا تزال مبسوطة، الى رفيقة الأب مكاريوس وقال له: خدلك هادا".

لم يكتف شربل الحبيس بعمل الواجب، بل تعداه الى أقصى حدود الشهامة والسخاء في العطاء. فكلام السيد المسيح: "لا تستطيعوا أن تعبدوا ربين الله والمال"، كان له في روح شربل صدى عميق القرار بعيد المدى. لا يمكن القلب اذي تتنازعه الأهواء أن يفقه كلام الرسول "لقد حسبت كل شيء كالزبل لأربح المسيح وأوجد فيه". أما شربل السائر الى الحقيقة بكل نفسه كان يفهم. كان يحب فضيلة الفقر ويمارسها بنوع بطولي، لا ممارسة خارجية فحسب، بل ممارسة باطنية مستمدة من روح التجرد المسيحي، من حياة أباء البرية، من كلام صاحب الاقتداء:"أترك الكل تجد الكل".

لم يرد شربل أن يمس الدراهم ولا أن ينظرها ولكن عندما رأى أنه لا بد من أخذها، تناولها كما يتناول الانسان شيئا ً حقيرا ً أو فيه جراثيم داء، وذهب توا ً يدفعه لرفيقه قائلا ً: خدلك هدا. أعني هذا الشيء الزهيد الذي لا يستحق أن أسميه باسمه. هذا يدل على تمسكه بنذر الفقر المقدس تمسكا ً عاهد به قلبه وعينيه ويديه أنه لا يميل ولا ينظر ولا يمس فلسا ً أو شيئا ً من حطام الدنيا. وقد شهد معاصروه أنه عندما كان يكلف بتقدمة قداس على نية أحد، ما كان ليقبل الحسنة، بل كان يقول للمعطي: أذهب وسلمها لرئيس الدير. أنه قد عاش مثل افقر الفقراء في مأكله وملبسه ومنامه. لا لأنه كان مجبرا ً على العوز والحرمان الكلي، بل لانه اختار الا يجعل حدا ً لحبه للمسيح الذي يؤمن ويترجى أنه سيملكه ويتحد به الى الأبد. عرف ما هو الغنى الحقيقي واين هو. أدرك أن الفقر الاختياري هو درة ثمينة مخباة في حقل عزلته وحياته النسكية. لذلك منذ دخوله الدير، قد باع كل شيء له واشترى ذلك الحقل. وراح لا يني ممعنا ً في الحفاظ في كنزه الثمين الى أن بلغ الى ينبوع كل خير وحب وقداسة: الى الله.

"ما بيجوز لي آخذ شي بدون اذن"

طلب الاب شربل مرة من رئيسه منديلا ً كان يحتاجه لمسح عرقه... فقال له الرئيس: أن عندك كثيرا ً من المناديل في المحبسة قدمها المؤمنون فلماذا لم تاخذ منها حاجتك؟ فأجاب: "انه لا يجوز لي أن آخذ شيئا ً دون اجازة رئيسي"

وهذا حدث من الأف يدل على تمسك شربل بحفظ نذوره الرهبانية حفظا ً بلغ حد البطولة. أنه قد تقدس عن طريق رسومه الرهبانية والنسكية، وفي ذلك وحده سر قداسته. وهذه الكلمة تعبر عن تمسكه بنذري وفضيلتي الطاعة والفقر. أنه ما كان ليمد يدا ً الى شيء من خيور الدنيا ولو مباحا ً له الا باجازة الرئيس. كان بحاجة الى منديل كي يمسح به العرق المتصبب على جبينه في عمله الشاق، أو ليمسح به انفه وقت القيام بالذبيحة الالهية، ومع أنه كان له الحق بأخذ ما شاء من المناديل، فلم يفعل بدون علم الرئيس. أن في هذه الأمانة الاختيارية لكمال الفقر والطاعة والزهد. ليس أتيان الأعمال العظيمة مقياس القداسة. أنما المحبة وحدها تخلق القديسين. فهي تجعل اصغر العمال عظيما ً وساميا ً والهيا ً!!

جاءت ورده ابنة شقيقه حنا تسأله أن يتنازل لها عن حصته في الأرث من والدها الذي توفي في تلك السنة فاجابها:

"أن أخي مات هذه السنة، وأنا مت عن العالم من حين خروجي من بقاعكفرا. فأني لا أرث ولا أورث"

قال هذا دون ا، يواجهها. وكان بجوابه دليل ساطع على تجرده الرهباني، ليس فقط عن الأهل، بل عن حطام الدنيا وما فيها. وفي الواقع أن الراهب بعد ابرازه النذور الاحتفالية: الطاعة والعفة والفقر، يصبح ميتا ً عن ارادته الذاتية وعن جسده وعن كل ما يسمى ملكا ً أو شبه ملك. وبحسب قوانينه ليس له أن يرث أو يورث.

ومتى سبرنا غور حياة الأب شربل وتغلغلنا في منطويات نفسانيته، وأطلعنا على ضروب الاماتات والتقشفات التي كان يأنيها، ظهرت لنا دقته وبطولته في حفظ نذوره الثلاثة بحيث أنه لم يكن يأتي عملا ً الا بروح الطاعة المقدسة، متنزلا ً عن ارادته الذاتية عاملا ً بقول الرب: "ما جئت لأعمل ارادتي بل ارادة من أرسلني". وكأني به من حيث عفته، كان محققا ً في حياته كلها، صوتا ً لهذه الفضيلة الملائكية كلام أيوب: "عاهدت عينى ً الا تنظرا الى وجه عذراء". يخبر الأب يوسف الحصروني أن النساء اذا درت بمرور الأب شربل بطريقهن كن يحدن حالا ً ويختفين وراء الصخور الى أن يعبر الحبيس. وكذلك ما كان ليتفرس بوجه انسان امرأة كان أو رجلا ً. وبعد أن رأيناه يرفض مقابلة والدته، فهل نعجب من رفضة مقابلة ابنة شقيقة؟ فمن كانت روحه مترعة بأسرار السماء وكان رب السماء في قلبه، تمسي الدنيا لديه قبضة من ضباب.

جاء شقيقه من بقاعكفرا قصد أن يراه فقرع الباب. وقبل ان يفتح له ذهب الى رفيقه في المحبسة وقال له:

"أخي على الباب، أتسمح لي بأن افتح له؟"

لم يتوغل شربل في عزلته منذ هجر الدنيا الا لينقطع بكليته الى ربه ويجلس ليلا ً ونهارا ً عند قدمي سيده يصغي الى كلامه الالهي ويناجيه متذكرا ً كلامه لمرتا: "أما مريم فقد اختارت لها حظا ً سعيدا ً لا ينزع منها". لم يعد شربل يريد أن يشغله شاغل عن هذه المناجات الالهية. أما جاءت بالامس امه لتراه فأوى الى الكنيسة؟ وها ان اخاه الان على الباب، جاء من بقاعكفرا ماشيا ً مسيرة يومين. قرع الباب واذا بصوت من الداخل: من القادم؟ فأجاب: أنا أخو الحبيس شربل. فقال: وكان السائل شربل نفسه - انتظر قليلا ً ريثما أسأل الحبيس هل يريد ان يفتح لك.

كان لشربل الحق ان يفتح لأخيه سريعا ً. انما شاء أماتة لنفسه ولميله الطبيعي الى تنسم أخبار أهله وذويه، أن يستأذن رفيقه، ذلك دليل على رغبته في ألا يأتي عملا ً دون ان يفرغه في قالب الطاعة المقدسة، ويمحصه في بونقة التواضع والوداعة والتجرد. وشربل قد اشتهر، منذ ترهبه، بطاعته لا لرئيسه فحسب، بل للجميع حتى لاجراء الدير انفسهم. ذاك لأنه كان يرى في كل انسان مسيحا ًآخر عليه أن يحيه ويأتمر بأمره.

عجب الاب مكاريوس رفيقه من هذا الطلب وأجاب متلعثما: أجل! أجل! يجب ان تفتح لأخيك وتقابله. وقف شربل عند هذا الأمر ، ومشى، بوداعة الطفل يدخل أخاه. وكانت بعض دقائق وعت كل حديث شربل لأخيه: "كيف حالك وعيلتك؟ هل تقومون جميعكم بواجباتكم الدينية خير قيام؟" ثم صرف أخاه.

كان حديثه كلمتين! ولم الكلام، وشربل يعلم ان ليس جوهر القداسة في الكلام بل في المحبة والعمل الصامت الباني! أما جاء ليقتدي بآباء البرية المتوحدين وخاصة بمعلمه الذي عاش صامتا ً عاملا ً طوال ثلاثين سنة، حتى اذا دنت برهة التبشير وجاءت امه وأخوته ليروه، قال: "ان امي واخوتي هم الذين يسمعون كلمة الله ويحفظونها". هذا السماع وهذا الحفظ لكلام الله كانا وقفا ً على شربل ما دام في قيد الحياة.

مناجاة الله الدائمة، والاستغراق في التأمل بكمالاته والتمتع بلذة محبته، تلك كانت أمنية شربل العظمى وهو يعلم ان جوهر الحياة الروحية وينبوعها وغايتها الاتحاد بالله تعالى. هذا الاتحاد بالخالق هو ايضا ً غاية الخلق وغاية الأسرار المسيحية بجملتها، هدف الخليقة بأسرها، ومطمح قلب الانسان...

فلا أم ولا أب ولا أخ ولا نسيب، "ولا خليقة أخرى تستطيع ا، تفصله عن محبة الله التي بيسوع المسيح"!

استدعوا الأب شربل مرة من كسروان ليصلي على مريض من اسرة الدحداح فاطاع أمر الرئيس ومضى ولما وصل الى سيدة البير وقف بغتة ثم ركع وقال لرفقاءه:

"اركعوا وصلوا عن نفس المريض، انه توفي في هذه الساعة!"

ثم عاد الى المحبسة. وهكذا تم بالفعل. ما عاش الأب شربل منزويا ً في صومعته غير مكترث بخير القريب. بل كانت حياته تضحية لأجل خلاص القريب.

وها هوذا الآن يطيع امر رئيسه تاركا ً عزلته الى حيث دعاه الواجب. وفي الطريق عرف ان المريض قد مات. فما الذي ينبغي ان يفعل؟ هل ينفع الميت بعد غير الصلاة؟ وهذه ما كان ليضن بها على نفوس الموتى. فصلواته الليتورجية مشحونة بتذكارات الأنفس المطهرية. فالأنفع لنفس الراحل والأجدر بالحبيس أن يجثو ويصلي عن تلك النفس العابرة الى دنيا البقاء، ثم يعود الى محبسته فيضاعف صلواته لأجل الحياء والأموات، وتأملاته في زوال الدنيا وعواقب الانسان...

فلنا في تصرفه هذا امثولات ثلاث:

- تلبيته السريعة، مهما كلفه المر، لصوت الطاعة؛
- رغبته الحارة في القيام بالأعمال العائدة الى خير القريب؟
- منح الله أياه هبة معرفة الغيب. وهذه عطية طالما خص الله بها قديسيه الذين ضفت نفوسهم، وسبحوا في عالم اسمى من عالم المادة، فأصبحت خفايا الامور ظاهرة ومكشوفة لديهم.

والحدث الآتي قد رواه لي وشهد به كثيرون من اهمج المجاورة عنايا، وسواهم من رهبان وعلمانيين، وأكثرهم لا يزال حيا ً.

طلب الاب شربل يوما ً زيتا ً لسراجه. فأجابه. الاخ فرنسيس المشمشاني وكيل الكلار لماذا تأت قبل المساء. ضع سراجك هنا الى الغد. فأطاع . وبعد ذهابه، ملأ أحد خدام الدير السراج ماء عوض الزيت. وحمله اليه قائلا ً. لقد ملأت لك السراج زيتا ً. فأشعله الأب شربل فاشتعل، وظل يطالع على نوره الى ساعة متأخرة في الليل. وكان الرئيس قد نبه الرهبان الا يضيئوا سرجهم تلك الليلة، لكي يستطيعوا النهوض لتلاوة صلاة الليل عند نصف الليل. وكان الأب شربل غائبا ً وقت تنبيه الرئيس، فاستيقظ هذا قبيل منتصف الليل ورأى غرفة الاب شربل منارة فاسرع وفتح الباب وقال للأب شربل: لماذا أضأت سراجك وما رقدت؟ وللحال جثا الاب شربل راكعا ً مكتوف اليدين وقال بوداعة: "أغفر لي لأجل المسيح". وعاد الرئيس الى غرفته واذا بالخادم يدخل ويقر بفعلته انه ملأ السراج ماء ً. فأمر الرئيس بأن يأتوه بالسراج فتناوله وأفرغ منه على يده وتحق وجود الماء فيه. وما كان من الرئيس اذ ذاك الا أن ذهب الى غرفة الاب شربل وجثا ً امامه قائلا ً: "أغفر لي يا أبت وصل علي". ولم ينهض حتى باركه الاب شربل.

هذه الكلمة: "أغفر لي لأجل المسيح" كانت مستحبة على قلب الاب شربل. وكانت حجته الوحيدة عندما يوجه اليه لوم ولو كان بريئا ً منه. ففي أحد الأيام كان يشتغل في الكرم فكلف بان ينهض الجفنات وينحيها من ممر البقر. وعلى الرغم من جهوده مرت بقرة على جفنة فكسرتها. فغضب الاب مكاريوس وقال لشربل: "هذه الجفنة قد كسرت بسبب اهمالك". فركع للحال وأجاب بصوت هاديء: أغفر لي لأجل المسيح.

ومرة زار رئيس الدير الاب نعمة الله اللحفدي العملة في الكرم وكان شربل يشتغل في ناحية من الكرم بحيث لا يرونه. فسأله الرئيس، وكان يعلم انه لا يأكل الا اذا امره أحد بالأكل: "هل تغديت يا بونا شربل". فأجاب: "لا ، لم يدعني احد للأكل". كان رفقاؤه قد نسوه. وكان لا يأكل الا مرة واحدة في اليوم. وقد استمر صائما ً في ذلك اليوم ثلاثين ساعة ً محتملا ً ألم الجوع والعطش بسرور.

وهذا مجنون يدعى جبرايل سابا من اهمج اتى به الى المحبسة اربعة رجال اشداء يمسكون بيديه خشية ان يفلت فيوقع بهم وبنفسه شرا ً. تمنع عن الدخول الى الكنيسة كل التمنع. فأعلم الحبيس فجاء وانتهره قائلا ً: "أدخل الكنيسة" فدخل وجلس، ولكن بغير احتشام. فقال له: "اركع منتصبا ً". فركع متأدبا ً مكتوف اليدين بدون مقاومة. وبعد أن قرأ الأب شربل الانجيل على رأسه، نهض الشاب معافى ً سليما ً، وعاد مع رفاقه شاكرا ً الله على شفائه.

كتب الاب شبلي في شهادة الأب افرام نكد، حبيس محبسة قزحيا ما نصه: قال له مرة رئيس الدير الأب الياس المشمشاني "ألا تميل ميلا ً خصوصيا ً وتنعطف يا بونا شربل الى المبتدئين الذين من قريتك أكثر من ميلك وانعطافك الى سائر أخوانهم، فان هذا الميل طبيعي باطني في الانسان؟"

أجابه الأب شربل بصوت منخفض كعادته: "كلا، فاني لا أميل اليهم لا باطنا ً ولا ظاهرا ً. فان كل الأخوة عندي سواء".

هيا بنا الآن نسمعه ينطق بما فيه كل سر قداسته، اذ يخاطب لا بشرا ً مثلنا، بل رب البشر، من وقف له كل قوى نفسه وجسده، واتجه اليه بعقله وقلبه، وشغف بمحبته منذ الصغر، وضحى بحياته كلها على مذبح محبته الالهية، تضحية تجلت بكل رموزها ومعانيها على أكمل وجه في قداسه الأخير، حيث لفظ أنفاسه تضحية مع قربانه، وهو يتلفظ بأجمل وأروع صلاة في القداس الالهي، رافعا ً القربانة والكأس في يديه: "يا أبا الحق، هوذا ابنك الحبيب ذبيحة ترضيك، فأقبله، انما مات لأجلي، حتى أطهر به. خذ هذا القربان من يدي وأرض عني ولا تذكر لي خطاياي التي اقترفتها أمام عظمتك. هوذا دمه المسفوك على الجلجلة لأجل خلاصي وهو بتضرع لأجلي فاقبل قرباني اكراما ً له، ان خطاياي توازي مراحمك اذا وزنت. أما حنانك فيرجح كثيرا ً على الجبال التي تزنها..."

هذه الصلاة التي وهنت عندها قوى الاب شربل فانقطع عن اتمام قداسه، ظل يرددها طوال اسبوع نزاعه كأنه يتشبث بتكميل الذبيحة عبر نزاعه وعبر الأبدية. ومما يجدر بالذكر ان الأب شربل أسلم روحه ليلة عيد الميلاد. كأنما الله أراد أن يولد هو في الدنيا، ويولد عبده في الأبدية السعيدة بحسب قول الرب: " من يؤمن بي فقد انتقل من الموت الى الحياة".

"يا أبا الحق..." على نور هذا الحق كان الاب شربل ينظر الى ما في هذا الكون من حق وباطل، من جوهر وعرض فيتمسك بالحق وحده معرضا ً عن سواه، حاملا ً صليب التضحية وراء الرب يسوع. ولهذا نراه في قداسه الأخير يرقى الى مذبح الرب كأنه المسيح يصعد الى جبل الجلجلة مجددا ً ذبيحة الصليب بالقداس الالهي بعد أن يكون قد استعد له من نصف الليل الى نصف النهار بالصلاة والتأمل ناظرا ً الى يسوع القربان والمقرب، متقمصا ً اياه نوعا ً، جاعلا ً حياته كلها ضحية ومحرقة لأجله. وباي ايمان وأي خشوع. كنت تراه على مذبح القدس يتلو صلوات القداس بلفظ كامل مدققا ً بحفظ الليتورجيا كل الدقة، متأملا ً بمعاني القداس الجميلة وكانت الفكرة الآخذة بجميع جوانحه وجوارحه، فكرة التضحية والذبيحة التي قدمها الفادي على الصليب أرضاء ً للعدل الالهي وتكفيرا ً عن خطايا البشر. الى أن قدم على تلاوة ً هذه الصلاة بعد كلام التقديس "أبا دقوستا"، "يا أبا الحق"، حتى رفع الكأس تعلوه القربانة وهو شاخص اليها ببصره وبصيرته، وقد غاص في بحر التأمل ورأى بعين ايمانه الحي الاب السماوي على عرش عظمته ومن وراء الاعراض السرية الابن القربان والمقرب فيناجيهما من أعماق لبه، كأنه يراهما وجها ً لوجه موقناً انه في قلب الحقيقة غير واهم ولا شاك فيما يراه. بل تتمثل لديه ذبيحة الصليب الدموية بكل روعتها وجميع ظروفها المؤلمة، كما يوقن حقا ً أن القداس الذي يقيمه انما هو تمديد تلك الذبيحة بعينها ولا فرق الا بأن تلك دموية وهذه غير دموية.

ثم تخور قواه في قداسه هذا الأخير، ويغمى عليه أو قل يخطف بالتواريا فينقل الى غرفته وهو لا يزال يردد صلاته هذه: "يا أبا الحق" الى أن لفظ الروح، صارخا ً مع الفادي من على الصليب "يا أبتاه، بين يديك استودع روحي" فغادرت نفسه البارة جسده الطاهر؛ منتقلة من دنيا الباطل الى دنيا الحق، منضما ً الى الرب القائل "أنا الطريق والحق والحياة". الى من سار في طريقه وعاش بحياته واعتصم بحقه فاراد تعالى ان يعلن تلك الحياة الخفية الصامتة بالمعجزات الباهرة التي جرت وتجري بشفاعته وقد اهتز لها العالم شرقا ً وغربا ً وادلت عليها السطور الوجيزة التي دونها الاب انطونيوس المشمشاني رئيس دير عنايا في روزنامة الدير يوم وفاة الحبيس، وهي:

"انه في اليوم الرابع والعشرين من ىشهر كانون الأول بقاعكفرا سنة 1898 توفي لرحمته تعالى الاب شربل بقاعكفرا الحبيس، بداء الفالج، وتزود بواجبات الموتى، ودفن في مقبرة الدير، وله من العمر 68 سنة، بزمان رئاسة القس انطونيوس مشمشاني. وما سيجريه بعد موته يكفي عن الاسهاب بحسن سيرته؛ وبالاخص حفظ نذوره حتى نقول ان طاعته ملائكية لا بشرية.
Sat Sep 19, 2015 10:00 am View user's profile Send private message Send e-mail Visit poster's website
Display posts from previous:    
Reply to topic     discoverlebanon.com Forum Index » لبنان ... باللغة العربية
   
Page 1 of 1

 
Jump to: 


 
 
  Panoramic Views | Photos | Ecards | Posters | Map | Directory | Weather | White Pages | Recipes | Lebanon News | Eco Tourism
Phone & Dine | Deals | Hotel Reservation | Events | Movies | Chat |
Wallpapers | Shopping | Forums | TV and Radio | Presentation


Copyright DiscoverLebanon 97 - 2020. All Rights Reserved

Advertise | Terms of use | Credits