Back Home (To the main page)

Souvenirs and books from Lebanon
 

Sections

About us

Contact us

 
 
SearchFAQMemberlistUsergroupsLog in
Lebanon's history as it was - Extract

 

 
Reply to topic     discoverlebanon.com Forum Index » لبنان ... باللغة العربية
  View previous topic
View next topic
Lebanon's history as it was - Extract
Author Message
admin
Site Admin


Joined: 09 Mar 2007
Posts: 529
Location: Jbeil Byblos

Post Lebanon's history as it was - Extract Reply with quote
تاريخ لبنان كما كان - شفيق سليمان - مقتطف

الفصل الأول - هل لبنان حقيقة تاريخية أم "رؤية" توراتية

- التوراة: مصدر "تاريخ لبنان القديم".
- أساطير الفينيقيين.
- تفصيل ما رواه يمين من قصص خيالية.
- أسطورة "أخنوخ" (التوراتي) "كبير جبل لبنان".
- قانا صور"ليست "قانا الجليل".
- خلاصة.


أريد أن يعلم كل قارىء أن الغرض المتوخى من هذا الكتاب ليس الطعن في "استقلال" لبنان، ولا الاقلال من شأن الكنيسة المارونية، سواء أكان مباشرة أم ضمنا ً، بل أن الغاية المقصودة هي أنه يجب علينا أن نتنبه جد الانتباه الى مسألة أساسية فنستبطنها وننحرها علما ً، ونكتنه باطنها ونجلو غامضها، ألا وهي قضية "الكيان اللبناني"، وكيف نشأ في هذه البقعة من الأرض، وما هي الأدوار التي قام بها رجال الدين الموارنة عبر العصور من أجل انشاء هذا "الكيان" وتثبيت دعائمه. لا ينكر أن الكنيسة المارونية قامت بدور فعال في هذا المجال، لكن الأمر ليس مقصورا ً على ما عملته، اذ من الثابت أن "الوجود اللبناني" كان نتيجة كره الغرب للعرب. هذا الغرب الذي لم يسع في حياته كلها سعيا ً يرجى منه الخير للعرب، بل كان سعيه دائما ً لشقائهم، وهو في هذه الحال لا يزال حتى هذه الساعة. كان "الوجود اللبناني" نتيجة طمع الغرب بسورية (بلاد الشام)، أي سورية الغربية (لبنان)، وسورية الجنوبية (فلسطين)، وسورية الحالية، وحرصه على بسط سيطرته العسكرية عليها، وبالأخص سيطرته السياسية، بعد أن دارت الدائرة على ألمانية وتركية في الحرب العالمية الأولى، بل كان هذا "الوجود" من نتائج خيانة الانكليز في وعدهم للعرب، واتفاقهم مع الفرنسيين عليهم (معاهدة سايكس - بيكو): فقد زحفت الجيوش الفرنسية على سورية، وكانت معركة "ميسلون" (24تموز 1920)، واستشهاد قائد الجيش السوري يوسف العظمة، وانزال الملك فيصل عن عرشه، واسقاط "الدولة العربية المتحدة" التي كان الانكليز قد وعدوا العرب باقامتها ان هم ثاروا في وجه الترك في الحرب العامة. فلما فعلوا وتحرروا من النير التركي ونالوا آمالهم، نكث الانكليز وعدهم وتركوهم وشأنهم يذهبون فريسة فرنسة.

وهاك ما قاله العلامة الأميركي "لوثروب ستودارد" في هذه الغزوة "النابوليونية": وفي 25 تموز (يوليو) دخل الفرنسيون دمشق عاصمة ملك العرب، وخلعوا فيصلا ًوأسسوا حكما ً فرنسيا ً تاما ً وجازوا العرب على المقاومة التي قاموا بها مجازاة أهول ما كانت من الشدة والعنف، وغرموا دمشق 10000000 فرنك غرامة حربية، ناسجين في عملهم هذا في سورية على منوال الألمان في بلجيكا، وزجوا في غيابات السجون وقتلوا كثيرا ً من القادة الوطنيين، وأعلن غورو أن موت "فرنسي واحد أو نصراني واحد" يعقبه "أخذ الثأر الأهول والانتقام الأفحش"، بالطيارات الحربية ذات القنابل" (من كتابه "حاضر العالم الاسلامي"، ترجمة العلامة عجاج نويهض، الجزء الثاني، مصر، 1343ه 1924 م، صفحة 181).

وبعد مضي أيام قلائل على احتلال دمشق، ولزيادة استذلال العرب، توجه الجنرال غورو لزيارة قبر صلاح الدين الأيوبي (أعظم ملوك المسلمين الذي انتصر على الصلبيين واستعاد القدس) بجوار الجامع الأموي، وقف حياله، بخيلاء، وقد هزته نشوة النصر في قتال غير متكافىء، وقال عبارته الشهيرة: "صلاح الدين، نحن هنا".
لكن احتلال دمشق لم يكن جميع ما رمت اليه السياسة الفرنسية التي اتبعها غورو، فهو في ذاك الحين عينه كان يبعد بمرمى سياسته الى "سورية الغربية" ليحول ذلك الجزء الى بؤرة طائفية شديدة السعير. وقد لقي غورو في الموارنة، المختمرين جد الاختمار بالسعي لاقامة "وطن قومي مسيحي"، أعوانا ً حمسا ً وأنصارا ً غيرا ً، الى جانب نصيرته انكلترة التي خانت العرب العهد، وصارت حكومتها أسوأ وشرا ً من الحكومة التركية البائدة اذ غدت لأهواء فرنسة محسنة، ولانتقاضها على العرب ودك استقلالهم دكا ً مؤيدة. ولكن لعمري أي غرابة في هذا وفرنسة عاملة على تنفيذ خطة وضعتها، بالاتفاق مع انكلترة، يكون لها بموجبها سورية ولبنان، ولانكلترة فلسطين. وهذه الخطة كانت مقررة بينهما منذ 1912 (حسبما روى العلامة شكيب أرسلان في تعليق له من كتاب العلامة ستودارد، المار ذكره، الجزء الأول، صفحة 151)، وقد افتضاح سرها. على أن غاية فرنسة وانكلترة كانت أبعد من الاقتسام، فقد كانت غايتهما أن يكون للموارنة "وطن قومي مسيحي" في "لبنان"، وللصهاينة" وطن قومي يهودي "في "فلسطين".

وفي الواقع أن الأدلة على هذه الغاية ا لانكليزية الفرنسية مشهودة جلية في وعد "ريتشارد وود"، العميل الانكليزي الذي كان يعمل في السفارة الانكليزية في الآستانة، للموارنة، عام 1836، باقامة "امارة مارونية" تحل محل "الامارة الدرزية"، ووعد "آرثر بلفور"، وزير الخارجية الانكليزية، للصهاينة، عام 1917، باقامة "وطن قومي يهودي يحل محل "فلسطين"، مما سنعرض له بعد.

ومثل وقوفه حيال قبر صلاح الدين في دمشق، وقف الجنرال غورو حيال مدخل المفوضية الفرنسية في حرج الصنوبر في بيروت (السفارة الفرنسية حاليا ً) معلنا ً أمام رهط من رجال الدين والسياسة والوجاهة، قيام "دولة لبنان الكبير" (1ايلول، 1920). ومن ذلك الحين بات "الوطن القومي المسيحي" حقيقة واقعة مشدودة الأزر من قبل الفرنسيين بالسلاح والمال، ومن قبل المسلمين بقليل من الرجال (ومن يقف على الصورة التذكارية لذلك الاحتفال "التاريخي"، يرى، للأسف، مفتي المسلمين مصطفى نجا بين الأشخاص الذين حضروه. وفي هذا الدلالة على ما كان وسيكون مما رسمه المسلمون (السنة) ونقشوه في صورة "لبنان الكبير" المنفصل عن سورية، وسنذكر هذا في سياق البحث).

اذا ً، بعدما أمست سورية مهيضة الجناح، من جراء، انهزامها في معركة "ميسلون"، وفراغ جهدها السياسي والعسكري، أصدر الجنرال "غورو"، في تاريخ 30 من آب، سنة 1920، قراره ذا الرقم 318، والذي بموجبه "فصل" "لبنان" عن سورية، وجعله "دولة"، وجعل هذه الدولة "مستقلة": "هذا الاستقلال" لم يكن، في حينه، الا الاستقلال عن سوريا، اذ ان الانتداب كان مسيطرا ً على كامل مرافق الدولة الفتية، وأن القرار في كل شيء كان لا يصدر، في النهاية، الا عن الانتداب وممثليه" (أدمون رباط، "الوسيط في القانون الدستوري اللبناني"، 1970، صفحة 336).

وانه مما يجدر بأن نشير اليه هنا، "حيثية" استند اليها "غورو" في قراره المشار اليه، وهي: "وحيث يقتضي... أن تعاد الى لبنان حدوده الطبيعية، كما حددها ممثلوه وطالبت بها رغبات أهاليه الاجتماعية" (نقلا ً عن المرجع الآنف الذكر، صفحة 335).

واني أقول ليس من اصابة الحقيقة في شيء أن يقال أن ل"لبنان" "حدودا ً طبيعية"، وأنه يقتضي "اعادتها" اليه نزولا ً على "رغبات أهاليه". فالحقائق لا تكون حقائق لمجرد أن قالها "البطريرك الياس الحويك"، أو قالها سائر الناس حتى "الجنرال غورو". فهي لا تصير ولا يجوز أن تصير حقائق الا اذا انطوت على حق، "والحيثيات" التي استند اليها قرار"غورو" تكون كاذبة زائفة الا اذا قامت على صدق. فأين هو الحق، وأين هو الصدق في هذا الموضوع؟ أنا سأعطيك احق الحقائق فيه، وأنبئك أصدق الأنباء، ولا عبرة البتة بما ادعاه البطريرك الياس الحويك وردده أو"حيثه" الجنرال غورو.

فكما هو معروف، كان "لبنان" في القديم جزءا ً من "بلاد الشام"، كما كانت "سورية الحالية" جزءا ً من تلك البلاد. وهذه التسمية - كما يجمع المؤرخون - أطلقها العرب، على الأقل منذ القرن الرابع أو الخامس للميلاد، على جميع الأراضي الممتدة من الفرات شرقا ً الى البحر المتوسط غربا ً، ومن جبال طوروس شمالا ً الى سيناء جنوبا ً. وكان اليونان، ومن بعدهم الرومان، أول من أطلق اسم "سورية" على البلاد الشامية التي لم يكن لها في البدء اسم شامل تعرف به. والاسم هذا - كما يقول كمال الصليبي - مأخوذ من لفظة "أشور" Assyria. وكان يطلق قبلا ً على أجزاء شمالية من بلاد الشام خضعت في سابق الزمن للدولة الأشورية التي كان مركزها في شمال العراق. فأخذ اليونان والرومان اسم الجزء وعمموه على الكل (وسنبسط الكلام على ذلك، بالتفصيل، في الفصل الثالث من هذا الكتاب).

وكما في "سورية" كذلك في "لبنان"، فقد أخذ هذا الاسم، الذي هو ل"جبل" في الشمال، وعمم على المناطق الشمالية أولا ً ( ومنها جبة المنيطرة (الجبة تعني المنطقة الجبلية التي تتخذ شكل زاوية) ، وبلاد جبيل، وبلاد البترون، وجبة بشري)، ثم على سائر الأجبال الغربية حتى عم المناطق كلها.

وقبل تجزئة 1920، وتحديدا ً منذ 1516، كانت جميع الأراضي التي تقع ضمن البلاد الشامية مقسمة الى "أيالات" (أي ولايات بالعربية)، خاضعة للسيادة العثمانية، بما في ذلك المناطق التي تشكل اليوم "الجمهورية اللبنانية". وكان العثمانيون قد ورثوا عن أسلافهم المماليك التقسيم الاداري الذي كان معمولا ً به في بلاد الشام في أواخر العهد المملوكي وأدخلوا عليه بعض التعديلات. ومن جملتها استبدال اسم "نيابة" المملوكية باسم "أيالة" العثمانية.

أما الأراضي التي تقع اليوم ضمن "الجمهورية اللبنانية"، فكانت - حسب المؤرخ الصليبي - حتى 1864 تتألف من منطقتين اداريتين: واحدة في الشمال تابعة لولاية طرابلس، وثانية في الجنوب تابعة لولاية صيدا. أما منطقة البقاع فكانت جزءا ً من ولاية دمشق، منفصلة عن هاتين الولايتين تماما ً. كما كانت منطقة جبل لبنان الجنوبي في الأساس جزءا ً من ولاية دمشق، حتى استحدثت ولاية صيدا في 1660. وفي 1864 أعاد العثمانيون تنظيم ادارة الأقاليم، فبقيت منطقة البقاع جزءا ً من ولاية دمشق، فيما ألغيت ولايتا طرابلس وصيدا وحلت مكانهما ولاية بيروت. وكانت قد أنشئت في 1861، بضمان الدول.

وهكذا، وعلى الرغم من "الامتيازات" التي أعطاها العثمانيون للأمراء المعنيين، ومن بعدهم الشهابيين، الذين عرفوا باسم "أمراء الدروز"، في حكم الأراضي التي اقتطعت لهم، وهي ما عرف باسم "جبل الشوف"، أو "جبل الدروز"، فقد ظل هؤلاء خاضعين للسيادة العثمانية. وبعد انتهاء حكم الامارة، نفذ نظام القائمقاميتين (1843) حيث شطر"الجبل" الى قسمين طائفيين، أحدهما للدروز والآخر للنصارى، بعدما نجحت الدول الأوروبية الكبرى الخمس: انكلترة، وفرنسة، وروسية، والنمسة، وبروسية، بالاتفاق مع تركية، في تقسيم السكان الى طوائف متناحرة. ثم حولته، في 1861، الى متصرفية موحدة، عرفت باسم "متصرفية جبل لبنان". والجدير بالذكر أن عبارة "لبنان" لم تستعمل استعمالا ً رسميا ً، محدد المضمون، قبل ذلك التاريخ. ومع ذلك فقد ظل "جبل لبنان" خاضعا ً للسيادة العثمانية، على الرغم من الوضع السياسي الخاص الذي كان يتمتع به. اذ أصبح سنجقا ً مستقلا ً عن سورية تابعا ً للباب العالي مباشرة. وهنا تجدر الاشارة الى أن نظام المتصرفية هذا أفقد "لبنان" السيطرة على المناطق التي حكمها الأمراء المعنيون والشهابيون من قبل، أي وادي التيم والبقاع وصور وصيدا ولبنان الجنوبي وطرابلس وعكار وبيروت، بحيث اقتصرت أراضي المتصرفية على مناطق جبل لبنان. وبقيت هذه المتصرفية متمتعة بوضع سياسي خاص تحت الدولة العثمانية حتى أوائل الحرب العالمية الأولى. اذ ألغت تركية، في 1915، جميع الامتيازات في جميع أراضيها، بما في ذلك امتيازات جبل لبنان، الذي احتلته عسكريا ً حين أرسلت جمال باشا حاكما ً على "بلاد الشام"، أي سورية ولبنان وفلسطين.

وهكذا ألغي نظام المتصرفية وعهد المتصرفين في "جبل لبنان" وحل مكانهما الحكم التركي المباشر الذي ظل معمولا ً به الى أن احتل الحلفاء لبنان عام 1918. وفي 5 أيار 1920، تقرر في مؤتمر سان ريمو (ايطالية) الذي عقده مجلس الحلفاء الأعلى، بعد الحرب، تقسيم البلاد العربية ووضعها تحت الانتداب، على أن يكون لبنان وسورية لفرنسة، والعراق وفلسطين لبريطانية. وفي 1 ايلول من العام نفسه أعلنت فرنسة، باعتبارها الدولة المنتدبة، قيام "دولة لبنان الكبير"، في حدوده الحالية، كدولة تحت الانتداب الفرنسي، بعد توسيع رقعة "متصرفية جبل لبنان" بضم اقضية بعلبك والبقاع وحاصبيا وراشيا اليها،اضافة الى بيروت وصيدا وصور وطرابلس وعكار ولبنان الجنوبي. ثم أصبح "لبنان" "جمهورية" في 1926، تحت الانتداب الفرنسي أيضا ً، ومستقلا ً ذا سيادة في 1943.

والذي من أجله أوردت هذه اللمحة التاريخية، لاظهار ماهية العلاقة التاريخية للبنان بسورية. وقد بدا بوضوح أن الأراضي اللبنانية كانت جزءا ً لا يتجزأ من الأراضي السورية. وكان كل منهما يؤلف جزءا ً من البلاد الشامية، أي "سورية الطبيعية". والحقيقة التي يجب الاعتراف بها، هي أن انفصال "المناطق اللبنانية" عن "بلاد الشام" لم يتخذ شكلا دوليا ً، بما تتضمنه كلمة "دولة" من معنى، الا بعد اعلان استقلال لبنان في 1943. اذ أن الانتداب الفرنسي الذي حل مكان الدولة العثمانية لم يغير شيئا ً في طبيعة الأراضي اللبنانية والسورية. نقول ذلك، على الرغم من بداية ظهور كيان دولي للبنان، بعد انتهاء عهد الامارة وبروز تنظيم سياسي جديد عرف أولا ً بالقائمقاميتين ثم بالمتصرفية ثم بدولة لبنان الكبير وأخيرا ً بالجمهورية. وهي الفترة الممتدة ما بين 1843و 1926، كما أشرنا آنفا ً.

فيظهر جيدا ً مما تقدم، انه لم يكن ل"لبنان" في ماضي الزمن "حدود طبيعية" حتى يجعلها الجنرال غورو أصلا ً وحجة يرجع اليهما في قراره الذي نحن بصدده. ولا ينبغي لنا أن نعتبر أن حدود دولة فخر الدين، التي اتسعت حتى بلغت عكة وطبرية والناصرة، هي "حدود لبنان الطبيعية". لأنه مما لا مشاحة فيه أن لفظة "لبنان" لم تكن في وارد عقل فخر الدين. لا ينبغي لنا، بعد اطلاعنا على ما تقدم وهو قليل من كثير، أن نقبل ما ادعاه فؤاد عمون والبطريرك الياس الحويك أنه كان ل "لبنان" "حدود تاريخية طبيعية"، وأنه كان "مستقلا ً". ومن أعجب العجب أنهما جعلا "امارة الدروز" "امارة لبنان". أيكون فخر الدين، أمير الدروز وعرب استان" (بلاد العرب)، "أمير لبنان" أو "مؤسس لبنان الحديث"؟ هذه أضاحيك. والحقيقة التي أريد ايضاحها ايضاحا ً شافيا ً كي يطلع عليها كل مواطن من بني وطني، هي أن طلب عمون والحويك من مؤتمر الصلح في باريس (1919) "الاعتراف باستقلال لبنان"، واعادته الى "حدوده التاريخية والطبيعية" ، كان مبنيا ً على "نظريات" لا يعول عليها لأنها لا تمثل شيئا ً مما كان.

ولمزيد من الايضاح نقول: ان قيام "دولة لبنان الكبير"، أي "لبنان" الحالي، كان نتيجة جهد الغرب، بل من نتائج الاحتلال الفرنسي - الذي سمي، تلطيفا ً، "انتدابا ً" - وهزيمة العرب في "ميسلون"، أي أنه بكلمة: "اختراع" كتب عليه: "صنع فرنسي سنة 1920".

على أن سبب وجود "دولة لبنان الكبير" - والحق يقال - لا يرد الى جهد فرنسة وحدها، فقد كانت انكلترة - التي نكثت بعامة هاتيك العهود التي قطعتها للعرب - ترى ضرورة اقامة هذه الدولة (المارونية) في سورية الغربية، كي تستعين بها على اقامة دولة يهودية (اسرائيل) في سورية الجنوبية في ما بعد. ولذلك سمحت انكلترة لفرنسة باحتلال سورية والقضاء على "الدولة العربية الموحدة"، أو "المملكة العربية" التي كان على رأسها الملك فيصل، والتي شملت سورية الطبيعية، أي سورية ولبنان وفلسطين (بما فيها الأردن)، وتمزيق وحدة سورية باقامة دويلات طائفية مستقلة بعضها عن بعض. ولكن لم يطل الأمر حتى جعلت فرنسة هذه الدويلات قسمين: هما "سورية" و"دولة لبنان الكبير". فجاء هذا التقسيم حسب الخطة المكيفة لاقامة "وطن قومي يهودي" في فلسطين (واننا سنسهب الكلام، في القسم الثاني، الفصل الأول، من هذا الكتاب، على بيان أعمال فرنسة وانكلترة في سورية).

ومما ينبغي علينا ذكره بعد، هو أن الجنرال غورو لم يقف على رأي السكان في ضم "مناطقهم" الى "لبنان الكبير". فالحق أن هؤلاء لبراء مما فعله. وما تلك العبارة التي وردت في قراره، والتي تفهمنا أنه فعل ذلك تلبية لما "طالبت به رغبات أهاليه الاجماعية" الا كذب واختلاق، فان قال قائل أن في هذا غلوا ً، فما عليه الا أن يسمع ما يقوله الدكتور ادمون رباط في حاشية كتابه: "لا يبدو هذا القول بأن رغبات أهالي المناطق، التي ضمها الجنرال غورو الى لبنان الكبير، كانت "اجماعية"، اذ أنه لم يعمد، وقتئذ، الى استفتائهم بذلك، بل كانت هذه الرغبات، بأكثرياتها الساحقة، متجهة الى سوريا، كما دلت عليه الأحداث السياسية فيما بعد، ولم تنقطع مطالبتهم بالوحدة السورية، الا في سنة 1943، عندما اتفق اللبنانيون على استقلال بلدهم، استقلالا ً ناجزا ً "(الوسيط في القانون الدستوري اللبناني، صفحة 335).

التوراة: مصدر "تاريخ لبنان القديم"

يتضح من جميع ما تقدم أن "لبنان" لم يكن في السابق لا يشكل الا جزءا ً من سورية التاريخية بحدودها الطبيعية الممتدة من طوروس الى سيناء، وان "اللبنانيين" والفلسطينيين (والأردنيين) والسوريين لم يكونوا لا يشكلون الا شعبا ً واحدا ً هو الشعب السوري، ولو لم تكن الكتائب السنغالية التي قادها الجنرال غورو وهزم بها الجيش السوري في ميسلون، أي لو كانت سورية قادرة على سحق العسكر الفرنسي، لكانت حالت دون فصل "لبنان" عنها، ولقنت فرنسة درسا ً ملؤه العبر الكبرى، ولما كانت "اسرائيل" الجائحة الرائعة التي أنزلتها بنا انكلترة قضاء مبرما ً لا نني نتزلزل به الى أيامنا الحاضرة.

هذه حقائق لا ريب فيها. ولكن علماء الموارنة يدعون أن تاريخ "لبنان" يعود في قدم عهده الى أول ظهور البشر على وجه البسيطة (هذا الادعاء أشار اليه المؤرخ كمال الصليبي، في كتابه "منطلق تاريخ لبنان"، صفحة 13). ولو شئنا أن نجد حجة أو برهانا ً للرد على هذا الادعاء، لما وجدنا، ولعمر الحق، أدمغ حجة وأقطع برهانا ً منه على فساده وبطلانه. يعتقدون بالأساطير والخرافات. اننا على يقين أن هذا الادعاء فاسد باطل. والبرهان على يقيننا في ذلك انما هو "التوراة" وما حفلت به من أساطير بل وما أدخل عليها من أناشيد، والتي نسج رواة التاريخ الماروني على منوالها حكاية "لبنان" "الأزلي"، الأسطورية االتي تحولت الى واقع في أذهان رواتها.
وهذه" التوراة" (سلسلة الكذب) التي ولى الكتبة الموارنة وجوههم شطرها، يعتمدون عليها وينقلون عنها ويستمدون منها القدرة على الكذب، هي التي أمتهدت لليهود السبيل لاستعمار فلسطين (أرض الميعاد) التي وعدهم الههم "يهوة" المزيف باعطائها لهم واستخلصهم لنفسه ورجحهم على سائر البشر وجعلهم "شعبه المختار". يا الهي.

وبغض النظر عن اختلاف الموارنة في لبنان - الذين هم في نظرنا عرب ولو أبى متعصبوهم الاعتراف بذلك - عن اليهود في فلسطين، نسأل: هل مهدت "التوراة" أيضا ً السبيل أمام الموارنة لاستعمار "لبنان" من أيام فخر الدين، على اعتبار أن أهل "التوراة" يهود ونصارى، وأن الأخذ بها واجب ديني على الموارنة - كما على اليهود - ولو خالفوا به الحقيقة العلمية؟

ومن الأدلة على أن "التوراة" كانت مصدر "تاريخ لبنان القديم" عند الكتبة الموارنة، أنك ترى في صحف التاريخ الماروني (اللبناني) روايات منسوبة الى مشهوري "الأنبياء" من اليهود، ومنقولة عنهم، ومنظمة تنظيما ً مرتبطا ً بقصة "تكوين لبنان" بل بقصة بدء الخليقة. يا للفليقة.

وان شئت مثلا ً على ذلك، فاقرا ً ما حكاه "النبي" داود (نحو 1010-970 ق.م.) في "مزاميره" عند ذكره "لبنان": الصديق كالنخل يزهر ومثل أرز لبنان ينمو" (فصل،91، عدد 13).

ومثل هذا ما قاله "النبي" سليمان (ابن داود) (نحو 970-935 ق.م.) في "نشيده": "ساقاه عمودا ً رخام موضوعان على قاعدتين من ابريز وطلعته كلبنان هو مختار كالأرز" (فصل 5، عدد 15) سيأتيك حديث آخر عن "أشعار" سليمان و "تاريخ لبنان القديم" في الفصل الذي يلي).

وما قولك في ما يقوله "النبي" أشعيا (القرن الثامن ق.م.) في "نبوءته": "قد أوتيت مجد لبنان" (فصل 35، عدد 2).

وقد رأينا "النبي" ارميا (نحو 650- 585 ق.م.) يقول: "هل يخلو صخر الصحراء من ثلج لبنان أم تنضب المياه المتفجرة الباردة الجارية" (فصل 18، عدد 14).

ويعجبنا في ذلك قول "النبي"، حزقيال أو قزحيال (تنبأ بين 593 و571 ق.م.): "بسرو من سنير (جبل الشيخ، أو حرمون) بنوا لك كل طباقك وأخذوا أرز لبنان (جبل المكمل) ليصنعوا سواري عليك" (فصل 27، عدد 5)، وقوله أيضا ً: "هو ذا أشور أرزة بلبنان بهيجة الأفنان (الأغصان) غبياء الظل شامخة القوام وقد كانت ناصيتها بارزة بين أغصان ملتقة "(فصل 31، عدد3).

ملحوظة: أن أشعيا (قيل أنه تنبأ عن مولد السيد المسيح من عذراء، وارميا، وحزقيال، الذين مر بنا ذكرهم آنفا ً، وضعهم التقليد المسيحي في عداد الأنبياء اليهود الكبار الأربعة، أما الرابع الذي لم يرد ذكره معنا، فهو: دانيال، ولهذا سفر كتب في أواخر القرن الثالث ق.م.

ويطول بنا القول لو ذكرنا جميع ما بين أيدينا من أمثلة على هذا النحو من أقوال منسوبة الى "أنبياء" اليهود، وكلها يكاد يكون نمطها وأسلوبها نمط "انشاء" وأسلوب "وصف". وهي لم تزد على كونها لوحات أدبية، دون أن يكون لها أهمية تايخية. فأقبل عليها الكتبة الموارنة اقبال الجائع على الطعام المشتهى، ليأخذوا منها حجة وبرهانا ً على أن ل"لبنان" "كيانا ً مميزا ً" منذ ذلك العهد القديم. وفي يقيننا أن ما أسس على أساس "الانشاء والوصف" يرفضه العلم ولا يمنحه أيه قيمة. زد على ذلك اتساع دائرة الحديث عن "لبنان" و "شجرة الأرز" في صحف "التوراة" اتساعا كبيرا: فترى ذكرا ل "لبنان" عشرات المرات، ترى سبعين مقطعا ً مختلفا ً عن "أرز الرب" (يهوة)، أو "شجرة الرب"، كما سماها محرر "مزامير داود": "تروي أشجار الرب أرز لبنان التي غرسها "(فصل 103، عدد 16). ترى وصفا ً لهذه الشجرة نسبه الكاتب الى "حزقيال" فيقول: "هذه شجرة من أرز لبنان، في تفريعها الرائع وتوريقها الكثيف وجذعها المرتفع، التي ترتفع عاليا ً حتى الغيوم، والتي سقتها المياه فنمت ثم شاخت في فجوة التربة. لذلك علا جذعها عن جذوع جميع أشجار الحقول... وفي أغصانها كانت تعشعش (الأصح: تعشش) جميع طيور السماء، وتحت فروع أغصانها تلد مختلف الحيوانات المتوحشة (أليس في هذا الوصف ما يدل على أن "لبنان" لم يكن في الأزمنة الغابرة الا غابة للوحوش ولقطاع الطرق؟)، وتحت ظلالها كانت جميع الخلائق تستريح... ولم يكن من شجرة في جنة الله تضاهيها في جمالها. اني جملتها بحلة غنية حتى أصبحت جميع الأشجار في الفردوس جنة الله، تشتهي جمالها...".

حاشية: ذكرنا آنفا ً أن "حزقيال" هذا عد حد أنبياء اليهود الأربعة الكبار، بحسب التقليد المسيحي، فهل في هذا ما يعجب وهو الذي "أبدع" في وصف جمال الأرزة؟

فترى من هذا ارتكاز المؤرخين الموارنة على التوراة (تاريخ اليهود) في كتابة "تاريخ لبنان القديم"، ترى فيه الدليل القاطع على الترابط بين"تاريخ اسرائيل القديم" و"تاريخ لبنان القديم"، والبرهان الساطع على أن الحركة التاريخية القديمة (المقدسة) توحد بين اليهود والموارنة. ولعل هذا المعنى يزداد وضوحا ً بما رواه محرر "التوراة" في سفر يشوع (الذي خلف موسى وأدخل اليهود أرض كنعان)، اذ يقول: "وكان بعد موت موسى أن يهوة (اله اليهود) كلم يشوع بن نون، خادم موسى، قائلا ً: قم اعبر هذا الأردن أنت وكل هذا الشعب الى الأرض التي أنا معطيها لبني اسرائيل (أي أرض كنعان "سورية"). كل موضع تدوسه بطون أقدامكم لكم أعطيته. من البرية ولبنان هذا الى النهر الكبير، نهر الفرات، والى البحر الكبير نحو مغرب الشمس يكون تخمكم"(1:1).

وكذلك في قول "يهوة" (الرب) بلسان زكريا (النبي): "أصفر لهم وأجمعهم لأني قد فديتهم... وأرجعهم من أرض مصر وأجمعهم من أشور، وآتي بهم الى أرض جلعاد (قديما ً اسم البلاد الجبلية الواقعة في فلسطين بين الأردن والبادية العربية) ولبنان" (10:8و10).

على أن هذا، أعني امتزاج "تاريخ اسرائيل القديم" ب "تاريخ لبنان القديم"، يعطينا صورة عن "لبنان القديم":ان "لبنان" المار ذكره في "التوراة" مرارا ً وتكرارا ً كما أشرنا آنفا ً، لم يكن الا "أرز الرب (رب اليهود يهوة)، أي "جبل المكمل" الذي تظلل سفحه غابة الأرز، التي عمر سليمان (أحد أنبياء يهوة) هيكله من أخشابها، والتي تبعد عن بيروت مسافة ساعتين بالسيارة. وذلك بعبارة أخرى أن "جبل لبنان" ان هو الا "جبل المكمل" الذي ما انفك اسمه يتردد حتى اليوم، على الرغم من بلوغ اسم "لبنان" من الشهرة والارتقاء مستوى صار فيه دالا ً على كيان قائم بنفسه، وأعني "الوطن القومي المسيحي (الماروني)". وليس الذي نقوله هو من عندنا فحسب، بل أيضا ً مثله ما يقوله غلاة المؤرخين الموارنة. قال المؤرخ الأب يوسف يمين في هذا الصدد: "ان "جبل لبنان" انما هو أصلا ً وتحديدا ً "جبل المكمل" اليوم (ايلمارونية، 1993، صفحة 9). (وسنبسط الكلام على مجمل ما قاله هذا المؤرخ في كتابه المذكور في الصفحات التي تتلو).

من أطلق على "جبل المكمل" تسمية "جبل لبنان"؟ ومتى؟ وأين ظهر وتفشى هذا الاسم؟ وما هي الأسباب التي أدت الى ذلك؟

يدفعنا منطق الحقائق الى الاقرار، أولا ً، أن مناشىء لفظة "لبنان" ومبعثها ومصدرها هي التوراة. وكنا، في ما سبق، قد بسطنا الكلام على الأقوال المنسوبة الى داود وسليمان وأشعيا وارميا وحزقيال وفيها ذكر "لبنان". وقرأت في مؤلفات غلاة المؤرخين الموارنة أن اسم "لبنان" ظهر، لأول مرة، على ألواح آجرية في عهد الأشوريين. والارجح أن هذا الخبر ان هو الا نتيجة ما كتبه كاتب "العهد القديم" عن حروب ملوك أشور وغزواتهم، ونسبه اليهم كسائر الأقوال المنسوبة الى أنبياء اليهود. فترى، مثلا ً، نغلاتفلاسر الأول، وهو من أشهر الملوك الأشوريين (1117- 1077 ق.م)، يقول: "ذهبت الى جبل لبنان ثم عبرت الى البحر الى أرواد. قطعت جذوع الأرز وعدت بها عبر أمورو". والملك أشور ناصر بعل الثاني (883-859 ق.م.) يقول: "زحفت يومئذ في محاذاة جبل لبنان، حتى طلعت الى البحر الكبير في بلاد الأموريين حيث غسلت أسلحتي". فكان أن ذهب هؤلاء الغلاة الى أن اسم "لبنان" سجله الملوك الأشوريون على صفحات من الآجر".

ولا تستغربوا ما نقوله في دعوى "ظهور" هذا الاسم على تلك الألواح، وقد رأينا أن ما قيل في "لبنان" في أسفار التوراة، انما هو، كله، منسوب الى الأنبياء اليهود الذين ذكرنا، بل أن جميع التوراة "منسوب " الى موسى. وليس في هذا أدنى شك.

ومن المفيد هنا، منعا ً للاستغراب، أن نورد "قرار اللجنة الحبرية التوراتية"، الصادر عن الفاتيكان في تاريخ 27 من حزيران عام 1906، اذ جاء فيه: "ان نسبة أسفار التوراة (الكتب الخمسة الأولى من العهد القديم) الى موسى لاتتضمن حتمية الاعتقاد بأن موسى كتب بيده أو أملى على أمناء سره نصوص هذه الأسفار... وان الكتب الخمسة المذكورة قد تعدلت نصوصها مع مرور الزمان، بحيث أضيفت مثلا ً نصوص كتبها كاتب بعد وفاة موسى، وزيدت تفسيرات، وتحولت تعابير قديمة الى تعابير مستحدثة، وان هناك أخطاء ً اقترفها النساخون..." (جاء على ذكر ذلك الأب يمين الذي نحن في صدده، في كتابه: "المسيح ولد في لبنان لا في اليهودية"، 1999، صفحة 6، نقلا ً عن "الكتاب المقدس (بالفرنسية)، مدرسة أورشليم البيبلية - منشورات سيرف، باريس 1956- المدخل ص 4").

أذن من المسلم به أن أسفار "العهد القديم" من التوراة منسوبة الى موسى (علما ً بأن "موسى" نفسه لا يعد، في نظر بعض المؤرخين، أكثر من شخصية وهمية). ومن الواضح الجلي أن هذا الكلام ليس مقصورا ً على "موسى" فحسب، بل انه شامل جميع الأنبياء اليهود. وبعد ذلك، هل يستغربن أحد ما قلناه من أن ما قيل عن "لبنان" انما هو "منسوب" الى داود وابنه سليمان وغيرهما من الأنبياء والملوك المار ذكرهم؟ فيا ترى ما السبب الذي دعا "النسابين" الى "نسبة" "لبنان" الى سليمان (مثلا ً) وجعله هدفه المرمي المتجلي وراء "أناشيده"، والحقيقة أنه ليس عنده شيء من هذا؟ وما هي الأسباب التي أوحت الى هؤلاء "النسابين" كلمة "لبنان"؟ ومن أين جاءت هذه الكلمة؟

فبالنسبة للسؤال الأول، فلا ينتظرن القارىء أن أعطيه جوابا ً عنه. وما استطيع قوله فقط هو انني لا أعلم.

أما بالنسبة للسؤال الثاني والثالث، فيظهر لنا أنه لا يبعد أن يكون الحامل كل الحامل للنسابين من كتبة التوراة على اطلاق كلمة "لبنان" على "جبل المكمل"، هو بياض الثلج الذي يكسو قمته. ومما لا ينبغي أن ننساه أن لفظة "لبنان" مشتقة من ثلاثي "لبن" بمعنى أبيض. وأن أصلها يرتقي الى العبرية - الآرامية. وهي لغة التوراة الأصلية. والعاقل الذي يريد اعتبار الحقيقة لا يعجبن من قولنا أن هذه اللفظة انما هي، أساسا ً، "نعت" لجبل "المكمل"، ثم تحول هذا النعت الى "اسم" يدل على الجبل المذكور.

وعلى هذا، يمكن لنا التأكيد أن "لبنان" الحاضر انما هو نتيجة عمل مشترك بين الكتبة "والنسابين" اليهود وبين رجال الكنيسة المارونية في ظل التوراة، بمعنى أن هذه الكنيسة قد أخذت تسعى للاستفادة من هذه "الصفة" حتى استطاعت أن تحقق، بكد يمينها وعرق جبينها، وبالتعاون مع فرنسة والفاتيكان، ما تريد: وهو الانتقال ب "لبنان" من حالة "وصفية" بل وهمية، الى حالة واقعية. وأغرب ما في الحالة أن "لبنان" أصبح" وطنا ً قوميا ً مسيحيا ً (مارونيا ً)". ان هذا وأيم الحق لأفظع ما كان من أساطير خيالية.

من شأننا الآن أن نتتبع الأعمال التي نظمها الكتبة الموارنة: فقد نقشوا صورة اضافية عن "لبنان" غير الصورة التي رسمتها له التوراة، كما أسلفنا: "لبنان" هو "فينيقية"، وتسمية "فينيقية" أطلقت على "لبنان"، أي أنهم بسطوا تسمية "لبنان" (الجبل) على كامل الأرض السورية التي بنى فيها الفينيقيون ممالكهم، وجعلوا ل "لبنان القديم" تاريخا ً قائما ً بنفسه. ومحصلة ذلك أن الممالك الفينيقية كانت ممالك "لبنانية"، وأن الفينيقيين كانوا "لبنانيين"، وأن لبنانيي اليوم، أعني الموارنة منهم فقط، هم "فينيقيو" الأمس، أو قبائل منهم أو أسباط.

وأضرب لك مثلا ً على ذلك، ما أورده يوسف السودا، فرقد سماء التضليل التاريخي، في بحثه المموه بالجد والرصانة، المخرج بقالب الأسلوب العلمي الدقيق: "تاريخ فينيقيا ليس في الواقع الا حصيلة تاريخ مدنها الرئيسية لأن لبنان القديم ما كان دولة موحدة بالمعنى الحديث بل مجموعة ممالك متحدة تتعاون حينا ً وتتصارع حينا ً آخر. وكانت المملكة تقوم على المدينة وضواحيها" (من كتابه، "تاريخ لبنان الحضاري،" 1972، صفحة 35).

ونماذج أخرى تراها في بولس نجيم وجواد بولس وفيليب حتي والأب يوسف يمين والأب بطرس ضو ويوسف الحوارني وفؤاد أفرام البستاني الذين يعدون من الطبقة الأولى في علم التاريخ. ترى هؤلاء في التاريخ الماروني كأنبياء "يهوة" في التأريخ اليهودي، يجارون عقيدتهم وعصبيتهم ويصورون الحقيقة بغير صورتها، كما تدلنا على ذلك كتبهم (وسنعرض لبعض هذه النماذج في الصفحات التالية).

بجانب ما ذكرنا عن امتزاج "تاريخ اسرائيل القديم" ب "تاريخ لبنان القديم"، ثمة ملاحظة لا بد من ذكرها أيضا ً، وهي أن "أرض كنعان" (أرض الميعاد) كانت تشتمل على "لبنان" (الجبل)، أي "أرز الرب"، كما تصور لنا "نبوءات" الأنبياء اليهود، الكبار والصغار، لا فرق. ومتى علمنا أن "أرض كنعان" كانت تعني: "سورية"، منها "فينيقية"، ظهر لنا أن صلة "لبنان" ب "سورية" قديمة العهد لا جدال فيها. وهي صلة طبيعية تجعلنا لا نكترث في ما يدعيه متعصبة الموارنة انه كان ل "لبنان" "كيان مميز"، قبل أن "تخترعه" فرنسة عام 1920.

هذا ولا يخفى على المستبطن الحكيم والعارف اللبيب، أنه كما نجح مشهورو المؤرخين الموارنة في "تطوير" "تاريخ لبنان القديم" و"تصويره" تاريخا ً قائما ً بنفسه، أي مستقلا ً عن "تاريخ سورية القديم" (سورية التي منها لبنان)، كذلك نجحوا في "تطوير" "تاريخ لبنان الحديث"، فجعلوا له "صورة" تاريخ قائم بنفسه أيضا ً، مما سنعرض اليه بعد قليل أن شاء الله، على أن استنادهم في الدور الأول كان الى يشوع وهوشع ونحوم وداود وسليمان وأشعيا وارميا وحزقيال وصولا ً الى زكريا، آخر، أنبياء "أرض كنعان". ومن كان له أن يفعل هذا، هان عليه نعت "الفينيقيين" بأنهم "لبنانيون"، والادعاء أن تسمية "فينيقية" أطلقت على "لبنان" فترة من الزمن" (جواد بولس). وهو ادعاء القول ببطلانه يعد من قبيل تحصيل الحاصل، والغرض منه ايهامك أن "فينيقية" من "لبنان"، لا من "سورية"، وان تاريخها من تاريخه، بينما الحقيقة التاريخية التي لا يمكن لأحد من البشر انكارها، هي أن "لبنان" هذا لم يكن في الأزمنة الغابرة، ولا سيما في زمن الفينيقيين، لا يشكل الا "جبلا ً" من الأجبال السورية، ومأوى للوحوش الكاسرة، أو "ملعبا ً للنمور والنسائم"، على حد قول أدوار حنين، خطيب منبر الفصاحة. وغير ذلك انما هو محض وهم لم يعد يخفى على الناس وخصوصا ً المستنيرين بالعلم.

أساطير الفينيقيين

والذي نود أن نلفت اليه هنا، بنوع خاص، هو أن الذي جرى عليه العمل من أكثر مؤرخي الموارنة، وخاصة المتأخرين، الذين أنزلوا "أسفار التوراة" منزلة تاريخية، وهي ليست بأسفار "تاريخية" بحصر المعنى أي بالمفهوم العلمي الحديث للكلمة، ولو حوت بعض الأحداث التاريخية هنا وهناك، أنهم فعلوا كذلك في "أساطير الفينيقيين"، فان منهم من كان اذا تحدث عن "تاريخ لبنان القديم" ذكر أسطورة "أوروبا وقدموس"، وأسطورة "أدونيس وعشتروت"، كمرجعين يستشهد بحوادثهما الخيالية استشهاده بالحوادث التاريخية الثابتة، وأولى اهتماما ً خاصا ً بما جرى لقدموس أو لأدونيس، مع أن هذه التخيلات ليست حوادث تاريخية ثابتة، ولا تتضمن حتمية الاعتقاد بأنها حدثت فعلا ً.

ولنضرب لك مثلا ً الأب الدكتور يوسف يمين - المؤرخ والعارف بالذرة - قال في كتابه: "ايلمارونية"" والوادي المقدس - قاديشا - سمي هكذا نسبة الى "أدونيس" في بادىء الأمر، وكان أكبر وأهم ألقاب أدونيس: "المقدس"، كما نلقب نحن اليوم العذراء مريم "بالسيدة". كل هذا لنقول ونؤكد أن قصة أدونيس وعشتروت قد حصلت فعلا ً في وادي قاديشا وقنوبين..." (1993، صفحة 17).

ما هي قصة أدونيس وعشتروت؟

أدونيس هذا هو ابن سينيراس، ملك أشور، في بلاد العراق، وكانت أمه تدعى "مرة". وهي ابنة هذا الملك. وقد روت الأسطورة أن هذا الأخير جمعته بابنته مربية أولاده وقدمتها اليه في ظلمة حالكة دون أن يعرفها، فنتجت عن ذلك ولادة ابنهما "أدونيس". وقد وضع الكاتب لاجتماع الملك بابنته رواية سخية يلتدها كل مولع بالقراءات الأسطورية.

فلما شب "أدونيس" كان مولعا ً بالصيد، واتفق مرة، وهو يصطاد في جبال لبنان - كما تقول الأسطورة - أن مر أمام مغارة أفقا (منها ينبع نهر ابراهيم الذي سماه المحرر أدونيس)، فشاهدته الالهة عشتروت (معبودة الفينيقيين) التي كانت تغتسل تحت شلال هذه المغارة، فسحرت بجماله وتعلقت به وراحت تحدثه عن اعجابها به وحبها له وقررت أن تعاونه في هوايته، علها بهذه الطريقة تكسب وده.

ومن متابعة ما رواه كاتب الأسطورة، نرى أن "أدونيس" هذا (الذي صار اله الخصب) قتله خنزير بري بينما كان يحاول اصطياده، ودفنته عشتروت في أفقا. وقال أن عشتروت أخذت من دم أدونيس قطرات سكبتها على الوادي فاصطبغت مياه النهر بدمائه. وبعد موت أدونيس أعادته عشتار (معبودة سكان ما بين النهرين، وهي رديفة عشتروت) الى الحياة.
ومثل هذا ما ترى في أسطورة طائر "الفينيق" الذي يحرق نفسه ليتولد من رماده طائر مثله، كما جاء في أساطير "فيلو" الببلوسي (الجبيلي). وتروي التواريخ أن سكان هذا الجزء من سورية، أعني ما صار "لبنان"، كانوا يعرفون باسم "الكنعانيين"، وظلوا يعرفون بهذا الاسم حتى أطلق اليونان على بلادهم اسم "فينيقية"، نسبة الى هذا الطائر، فصاروا يعرفون باسم الفينيقيين.

وتانك الأسطورتان هما أشبه ما يكون بأسطورة "أوروبا وقدموس"، المشار اليها آنفا ً. وقد جاء في هذه الأسطورة أن "أوروبا وقدموس"، المشار اليها آنفا ً. وقد جاء في هذه الأسطورة أن "أوروبا وقدموس" هما ابنا آجينور، ملك صور، في بلاد فينيقية. وكان هذا يحب ابنته "أوروبا" حبا ً عظيما ً. وفي أحد الأيام خرجت هذه، صحبة رفيقاتها، للتنزه على شاطىء البحر فرآها "زفس"، سيد الآلهة، فسحره جمالها وصمم على خطفها. وكيلا يخيفها ولا يثير شكوكها، ظهر أمامها بشكل ثور يرعى في الحقل. وكان ثورا ً أشقر جذابا ً، وله على جبهته بقعة بيضاء ناصعة. فلما أبصرته "أوروبا" أعجبت به وتقدمت منه وراحت تداعبه. ثم ركبت عليه. فما كان منه الا أن مشى بها قليلا ً على الشاطىء ثم انحرف نحو المياه وابتعد في البحر. فراحت "أوروبا" تولول وتستغيث. عندها أخبرها "زفس" عن حقيقته ومقصده وأزال الخوف عنها. وحملها الى جزيرة "كريت" (في بلاد اليونان، وقد اشتهرت قديما ً بمدنيتها) حيث أسكنها قصرا ً فخما ً واتخذها زوجه له.

ولما علم الملك بما حدث لابنته أمر ابنه قدموسا ً بأن يجهز مركبا ً ويطوف به كل أنحاء الدنيا بحثا ً عن اخته حتى يجدها ويأتي بها اليه. والا فلا عودة له الى صور. ويطول بنا القول لو ذكرنا جميع ما يروى مما صلدف قدموسا ً في هذه الرحلة من المصادفات العجيبة والحوادث الغريبة. فنكتفي بالاشارة الى أن الاله "أبولون"، اله النور والفنون الجميلة، أمره بالكف عن البحث عن أخته وطمأنه انها في مكان أمين، ونصحه أن يبني له مدينة تغنيه عن العودة الى صور، ويكون هو ملكا ً عليها. فكان أن تم بناء مدينة ثيبة (في بلاد اليونان، حوالي القرن 15 ق.م.)، وكان قدموس أول ملوكها. وقد ازدهرت هذه المدينة في عهد قدموس ازدهارا ً كبيرا ً، وتعلم سكانها منه الكتابة بالحروف الأبجدية، كما كانت معروفة في المدن الفينيقية.

وفي أواخر أيامه، تحول قدموس الى ثعبان لقتله التنين ابن الاله مارس. تختم الأسطورة. وكان هذا التنين قد ظهر لقدموس في أثناء رحلته وقتل رجاله.

وهكذا نرى، بعد الذي تقدم، أن ما كان مما قاله "وأكده" الأب يمين من "أن قصة أدونيس وعشتروت قد حصلت فعلا ً في وادي قاديشا وقنوبين"، يخالف الحقيقة ولا يقره الواقع، بل كيف يكون حديثه صحيحا ً متى علمنا أن قصة "أدونيس وعشتروت" ان هي الا أسطورة. وكذلك قصة "أوروبا وقدموس"، أي أنهما حديثان لا أصل لهما. وما نقوله عنهما انما ينطبق على قصة طائر "الفينيق".

والذي نرى أن هذه الأساطير التي ذكرنا لم يأخذها مؤرخو الموارنة اعتباطا ً ولا كانت مجرد قصص تروى، انما كانت في الحقيقة نتيجة تفكير وبحث واجتهاد، ثم تم وضعها في قالب علمي للدلالة على ما ذكرت مقدما ً من أنه كان من هذه الأساطير شيء يتعلق بما سمي "تاريخ لبنان القديم". وهذا هو الذي رأيناه في ما أوردناه عن الأب يمين في قصة أدونيس وعشتروت.

والذي يظهر لنا أن الأب يمينا ً خلط بين وادي نهر ابراهيم - أدونيس، الذي ينبع من مغارة أفقا في سفح جبل المنيطرة، في جبل كسروان - ووادي نهر قاديشا (كلمة سريانية معناها "مقدس") - الذي ينبع من مغارة قاديشا في سفح جبل لبنان (الأرز)، أو جبل المكمل، كما هو أصلا ً - فأعطى لنفسه الفتوى في قصة أدونيس وعشتروت، وأخرج لنا فيها ما رأينا من أن حوادثها وقعت في وادي نهر قاديشا وليس في وادي نهر ابراهيم. وتغالى هذا المؤرخ حتى قال: ان مغارة "بيت لحم" (التي ولد فيها المسيح) "كانت مكرسة لأدونيس اللبناني منذ آلاف السنين" (المرجع نفسه، ص 15).

أنظر الى من نعته يمين بأنه "لبناني". فترى من هذا أنه يريد نسبة أدونيس "الفينيقي" الى "لبنان". ولهذا الرأي نتيجة تتفق ورأي سائر مؤرخي الموارنة، الكهنوتيين منهم وغير الكهنوتيين، فهم يعتقدون أن "لبنان" سمي "فينيقية": جاء في مقالة لجواد بولس: وبرغم اطلاق تسمية فينيقيا عليه (لبنان)، فترة من الزمن، لقد ظلت تسميته الأصيلة، النابعة من تراثه، تلازمه منذ ما قبل سنة 2000 قبل الميلاد حتى اليوم "(مجلة "لبنان"، تحت عنوان: "لبنان في التاريخ"، العدد الأول، آب، 1971، صفحة 50-54). ( سنتعرض لهذا مرة أخرى).

هذا ونعود الى موضوع أدونيس فنقول أن ما كان من اجتهاد الأب يمين في "لبننة" أدونيس، لا يشابهه الا أقوال يوسف السودا بكون كل منهما جد وبذل وسعه في اظهار الفينيقيين بأنهم "أجداد" اللبنانيين (الموارنة)، وأسلس في هذا السبيل العنان لهواه وأحنة صدره.

فمثلا ً، اذا قرأت ما كتبه السودا عما روته أسفار التوراة من قصة بناء "هيكل سليمان"، وجدته يقول: "البيت الذي شاده الملك سليمان (ملك اسرائيل، نحو 970-935 ق.م.) للرب (يهوة، اله اليهود) في أورشليم (القدس، كما دعاها العرب 638)، فبات موضوع اعجاب الشعوب في ما أخرجته صناعة السبك والتطويق في النحاس والفضة والذهب، من تماثيل ونقوش وزخارف وتلبيس ما كان ليصبح تلك التحفة المدهشة فنا ً واتقانا ً، لو لم تتعهده حذاقة اللبنانيين الخلاقة" (تاريخ لبنان الحضاري، 1973، صفحة 10).

وبيان ذلك أن الملك سليمانا ً استعان بحيرام، ملك صور - كان أشهر ملوك فينيقية - على بناء هيكله، فزوده هذا بخشب الأرز وأرسل اليه البنائين والعمال، كما فعل ذلك مع والده الملك داود من قبل. وكان أعظم الذين أرسلهم اليه المهندس حيرام أبيف الذي اعتنى جد الاعتناء ببناء هذا الهيكل الشهير (لم تتكشف الحفريات التي قام بها علماء الآثار اليهود عن أي أثر لهذا الهيكل المزعوم).

وانا بالرجوع الى تاريخ السودا، نراه يصف المهندس حيراما ً بأنه "الفنان اللبناني الخبير بعمل الذهب والفضة والنحاس والحديدج والحجر والأرجوان (صبغ أحمر. فينيقي الأصل) والسمنجوني (ما كان بلون السماء. فارسية) والبز (الكتان) والقرمز (صبغ أحمر. أرمني الأصل) وصناعة كل نقش واختراع كل شيء يلقى اليه..." (صفحة 111).

ومثل هذا ورد في التوراة على لسان الملك سليمان، اذ أرسل الى الملك حيرام يقول: "فالآن أرسل لي رجلا ً حاذقا ً بعمل الفضة والنحاس والحديد والأرجوان والقرمز والسمنجوني، ماهرا ً في النقش مع الحداق الذين عندي..."

والناظر الى هذا لا يعجب لخبرة المهندس حيرام في السبك والتطويق في النحاس والفضة والذهب الخ...، وانما يعجب للسبب الذي دعا هذا المؤرخ الى الاعتقاد "بحذاقة اللبنانيين الخلاقة"، والى نعت المهندس حيرام بأنه "الفنان اللبناني".
وانت اذا تصفحت تاريخ السودا، ترى أكثر من ذلك. تراه يقول: "المصنوعات الزجاجية الشفافة على اختلاف الأشكال، تملأ المتاحف، والألواح الزجاجية على اختلاف الألوان تزين نوافذ الكنائس، يرجع فن اختراعها الى اللبناني - عهد فينيقيا" (صفحة 113).

ومن أقواله أيضا ً: "في أوائل الألف الثاني قبل المسيح، بلغت صناعة الخزف أوج كمالها فاستخدم اللبناني الدولاب في قولبة الأباريق والأواني فحسن في أشكالها وهندستها وتنسيقها فجاوز الخزافون اللبنانيون ما وصلت اليه الصناعات المجاورة، مصرية كانت أم كريتية أم قبرصية" (صفحة 114).

ونحو من هذا ما قاله في عبارته الآتية: "أما في حقل التعدين فقد بلغ اللبنانيون شأوا ً بعيدا ً فاستخدموا النحاس والبرونز والحديد وحتى الفولاذ كما اظهرت حفريات رأس شمرا (أوغاريت)" (الصفحة نفسها).

وقد بلغت جرأة يوسف السودا على الادعاء الى حد قوله أن "اللبناني - عهد فينيقيا" اخترع الأبجدية (أي حروف الهجاء التي حلت محل الكتابة التصويرية: المسمارية التي ابتكرها السومريون، سكان بلاد ما بين النهرين (العراق)، والهيروغليفية التي ابتكرها المصريون).

وقال أيضا ً: "وعن الحروف الهجائية اللبنانية الفينيقية أخذ العالم القديم والحديث حروف هجائه فقد نقلها بحارة لبنان وتجاره الى حيث نزلوا. وعن هذه الأحرف أخذ اليونان ثم الرومان أبجديتهم محتفظين بمعظم أسمائها الأصلية. بالحرف ازدهر العلم والشعر والفلسفة، فكانت "حروفنا الهجائية" السلم الذي ارتقت على درجاته حضارة العالم" (صفحة 115، حاشية).

ثم يقول: "منذ أن أطل الانسان الأول على الحياة، وانفتحت عيناه على النور، كان يرى في كبد السماء نجوما ً تتلألأ في الليل ولا يفهم من سيرتها شيئا ً. الى أن جاء الملاح اللبناني وراح في لياليه الصافية يحدق في الفلك ويرقب نجومه حتى اكتشف نجمة تهديه الى الطريق تلك هي "نجمة القطب" التي أطلق عليها كتبة اليونان الأقدمون (الاغريق) اسم "النجمة الفينيقية" نسبة الى مكتشفها الفينيقي اللبناني. (صفحة 116).

فاذا أردنا أن نلخص عباراته في كلمة قلنا: انه يرى أن "لبنان" كان قائما ً منذ عهد الفينيقيين، وان أولئك القوم - الذين كان منهم الملك حيرام والمهندس حيرام ومستنبطو الحروف الهجائية ومستكشفو البحار ومراقبو النجوم وغيرهم من بناة الحضارة العالمية - ليسوا الا "لبنانيي الأمس"، على حسب الرأي الذي اجتمع مؤرخو الموارنة، ذوو النزعة التعصبية، عليه. وهذا الرأي وان كان في ظاهره مسألة فكاهية مضحكة، الا أن في أعماقه شيئا ً سياسيا ً خطيرا ً.

فهو يريد أن يفهمنا ليس فقط أن تسمية "فينيقية" أطلقت على "لبنان" - كما ذكرنا من قبل - وأن الفينيقيين "استوطنوا" "لبنان" وانشأوا فيه ممالكهم وبنوا حضارتهم ، بل أيضا ً أن الفينيقيين "أصل الموارنة"، وأنهم "موارنة اليوم الأساسيون" (مما سيأتيك شرحه في ما بعد.) ومن ذلك يتضح لنا أن ارتداد الموارنة الى الفينيقيين مؤسس على الاعتقاد أن ما كان ل "فينيقية" ل "لبنان"، وأن "فينيقية" لم تكن "فينيقية سورية" بل كانت "فينيقية لبنان". وعلى هذا الاعتقاد تدور حركة الموارنة التاريخية، فترى مؤرخيهم يقولون أن "لبنان" لا يحتاج في "تاريخه" الى "تاريخ سورية" يعتمد عليه ويصطبغ به، لأنه تاريخ قائم بنفسه يرجع الى عهد الفينيقيين، ولا يعدون كلمة "فينيقي" صفة، بل اسما ً يعني "مارونيا ً. ومثل هذا القول ينطبق على كلمة "لبناني".

وهذا يفسر ما ذكره الأب يوسف يمين من نعت "أدونيس" بأنه "لبناني"، أي "ماروني"، ونسبة هذا الى "لبنان" كنسبة "قدموس" اليه.
Mon Mar 28, 2016 8:50 am View user's profile Send private message Send e-mail Visit poster's website
Display posts from previous:    
Reply to topic     discoverlebanon.com Forum Index » لبنان ... باللغة العربية
   
Page 1 of 1

 
Jump to: 


 
 
  Panoramic Views | Photos | Ecards | Posters | Map | Directory | Weather | White Pages | Recipes | Lebanon News | Eco Tourism
Phone & Dine | Deals | Hotel Reservation | Events | Movies | Chat |
Wallpapers | Shopping | Forums | TV and Radio | Presentation


Copyright DiscoverLebanon 97 - 2020. All Rights Reserved

Advertise | Terms of use | Credits