Back Home (To the main page)

Souvenirs and books from Lebanon
 

Sections

About us

Contact us

 
 
SearchFAQMemberlistUsergroupsLog in
Fakhruddin II or the State

 

 
Reply to topic     discoverlebanon.com Forum Index » لبنان ... باللغة العربية
  View previous topic
View next topic
Fakhruddin II or the State
Author Message
admin
Site Admin


Joined: 09 Mar 2007
Posts: 529
Location: Jbeil Byblos

Post Fakhruddin II or the State Reply with quote
فخر الدين الثاني أو الدولة

الأسئلة


بات من نافلة القول منذ زمن طويل ان صياغة الرواية التاريخية تتم دوما ً عبر تحير عناصر بعينها واطراح سواها، مما تقدمه "المصادر"، وعبر نظمها في شبكة علاقات جديدة تستعيد، الى هذا الحد أو ذاك، قواعد "فن" معين من أدب التاريخ أو من علم التاريخ (لا فرق هنا) وتستعيد بهذه القواعد (وبالاضافة اليها أيضا ً) نظام قيم اجتماعية راهنا ً يلازمه المؤرخ. ولكن "التخير" وما يليه من عمليات، تتخذ صورة تخرج، في الغالب، من السوية المعتادة، حين يكون المؤرخ منصرفا ً الى كتابة ما يعتبره، بأعم المعاني، تاريخه هو.. فيظهر، اذ ذاك في تخير العناصر وفي تقويمها وفي أسلوب نظمها حضور وفعل لصورة انتماءات المؤرخ، لا يظهران، بالحدة نفسها، متى كان المؤرخ غير متواصل مع موضوعه. هذا مع أن فعل "الراهن"، أي حاضر المؤرخ بقيمه المختلفة، لا بد أن يظهر، عن قرب أو عن بعد، في الرواية، أيا ً يكن موضوعها.

ولكن تواصل المؤرخ مع موضوع روايته قد يكون تواصل عداوة أو تواصل ألفة، الخ.. ثم ان دائرة التواصل - وهي ما يهمنا هنا وما حكم اختيارنا للمثال الذي سوف نعرض له - تختلف، ضيقا ً واتساعا ً، باختلاف الموضوع طبعا ً، ولكن أيضا ً باختلاف الزاوية التي يحتلها المؤرخ حين يعاينه. وقد اخترنا مثالا ً يتيح استقصاء مقومات العلاقة بين مؤرخينا المعاصرين، على اختلافهم، والدولة، ويتيح تصنيف صور هذه العلاقة. وكان لا بد لاتاحة هذا الاستقصاء، أن يكون المثال مثال تأسيس مقترح للدولة. فيجد المؤرخ فرصته للقول بهذا التأسيس أو لرفضه، ولتحديد شروط التأسيس الفعلي - ضمنا ً أو صراحة - في الحالين.. ويتضح أيضا ً موقفه من الدولة في مقابلتها لقطب الانتماء الآخر الذي يفترض دائما ً انها تحققت عبر"تجاوزه" (مع الابقاء عليه)، وهو الطائفة.. يتضح اذن ميزان القيمة بين الطائفة والدولة وطبيعة العلاقة التي يرغب المؤرخ في الوقوع عليها بين هذه وتلك.. أما المثال المشار اليها فهو مثال فخر الدين المعني الثاني.. وأما امتيازه فهو في أن قصته مشرعة الأبواب أمام جميع الالتباسات، فأمكن لها أن تكون موضوعا ً لجدال تاريخي لم ينته بعد. هذا الجدال هو الوجه الآخر لذاك الذي كانت حقبة "الحركات"، وما تزال، موضوعا ً له. فالأخير هو جدال الانقسام والأول جدال الوحدة.. الأخير جدال حرب الطوائف والأول جدال تكون الدولة. والالتباس لا يقف عند حد السؤال الذي طرحه، منذ العنوان، كراس حديث العهد: هل توحد لبنان مع فخر الدين الثاني؟ وانما يتناول أيضا ً ماهية هذه الوحدة، في حال التسليم بحصولها (أهي وحدة دولة قومية، أم شيء آخر؟) وعلاقتها بالأجزاء (من ذا الذي شكل ركيزتها أو كان سباقا ً في المبادرة اليها وترك عليها تمغته؟ وضد أي من الأجزاء تمت، ان كان بين هذه الأخيرة من ناهضها؟) وعلاقتها بالخارج بما هي اظهار لهوية مجردة في وجه هذه أو تلك وبالائتلاف، الى حد، مع هذه أو تلك من هويات الخارج (الغرب أو المسيحية والشرق أو الاسلام أو العروبة).. ثم ماذا كان، بعد هذا كله، مبرر تأسيس الدولة أي امتياز هذا التأسيس - متى حصل - على الوضع الذي كان قائما ً قبله وامتيازه أيضا ً في منظور المستقبل؟ تلك هي أسئلتنا الآن.

حالة ملتبسة

بين من سنعرض لهم من المؤرخين لفخر الدين الثاني، وهم الذين تناولوا سيرته بين أوائل هذا القرن ويومنا هذا، يحتل عيسى اسكندر الملوف موقعا ً مخضرما ً. وذلك بمعان عدة. فهو نشر كتابه تاريخ الأمير فخر الدين المعني الثاني، سنة 1934 أي في أواسط المدة المتقضية من هذا القرن وبعد نشوء لبنان الكبير بسنوات عديدة وعشية اكتمال ثلاثمائة سنة على اعدام فخر الدين، وهي الذكرى التي شهدت أوج الاهتمام بسيرة هذا الأمير، شعرا ً ونثرا ً.. والكتاب مؤسس من جهة أخرى على مقالات صدرت، قبل الحرب العالمية الأولى (أي في عهد لبنان العثماني) على صفحات مجلة "الآثار" التي كان يصدرها المؤلف. فالنص اذن "يخترق" العهدين. ثم ان هذا النص نفسه، في الأصل، سيرة، توسع فيها المؤلف، من السير التي ضمها كتاب ضخم له بقي مخطوطا ً وهو تاريخ الأسر الشرقية العام. فهو اذن مكتوب في سياق منحاز، قليلا ً أو كثيرا ً، عن سياق التاريخ السياسي البحت. أخيرا ً يحتل المؤلف نفسه (لا كتابه وحسب) "موقعا ً" (أي مكانا ً وانتماء ً) مخضرما ً أيضا ً.. فهو بقاعي كاثوليكي (وهذا أمر نادر نسبيا ً بين مؤرخينا) لكنه سليل أسرة (عني كثيرا ً بتاريخها) منتشرة الى أنحاء مختلفة من الجبل.

تستوقفنا، في خط الملاحظات السابقة، ملاحظة أولى تتصل بعلاقة النص، شكلا ً ومضمونا ً، بمصادره. فهذه العلاقة هي علاقة تجانس أو، في الأقل، علاقة تواصل. من ذلك أن الكتاب يضم بضع عشرات من الصفحات مأخوذة من مخطوطة الخالدي الصفدي (التي ما لبثت أن ظهرت مطبوعة سنة 1936) ومثبتة بحروفها، مضافا ً اليها حواشي يقتصر معظمها على شرح معاني الألفاظ المشكلة وتمييز عاميها من فصيحها. هذا الى ميل واضح ناحية الحوليات بعد رسم الاطار العام في صفحات الكتاب الأولى وتخصيص صفحاته الأخيرة ل "اخلاق" الأمير ومنجزاته وأولاده قبل الالمام بسير خلفائه.. وهو ما كان كتاب "الحوليات" أنفسهم يفعلونه أو يفعلون شيئا ً قريبا ً منه، عند ذكرهم وفاة المؤرخ له. الخلاصة انه لا قطيعة، من حيث زاوية النظر بين المعلوف وأهم مصادره.

هذا الأمر يبدو لنا غاية في الأهمية متى وضعنا في الاعتبار أن المصادر المذكورة (الخالدي، بالطبع، ولكن أيضا ً المحبي والدويهي وحيدر الشهابي وطنوس الشدياق وكثيرين آخرين، محليين وأجانب) تدرج الأمير المعني في تاريخ متصل.. فهي اذا أبرزته على أنه يزيد عن سواه "عظمة" أو ضخامة وقع، الخ.. لا ترى فيه بدءا ً أو تأسيسا ً لحالة أو لوضع لم يكونا قبله واستمرا أو استعيدا بعده أو رشحا للاستعادة. وهي لا ترى فيه بالذات ما لم يكن لها، بداهة أن تراه: مؤسسا ً للبنان - الدولة. وذلك أن زمن هذه المصادر مكون في صلبه من خط مستقيم ، تعلو الأحداث من حوله وتهبط بلا انتظام. فالفارق بين الأمير وأقرانه فارق في درجة الوقع وفي القيمة، الخ.. لمصلحته أو لمصلحتهم. ولكنه ليس تحولا ً في الزمن من حالة عفت الى حالة مستمرة، في الحاضر، بصورة من الصور.

تلك هي أيضا ً سمة الزمن الذي ينخرط فيه فخر الدين عند المعلوف وان كان يداخل هذا الانخراط، عند المؤرخ "المخضرم" (بسائر المعاني التي أحصيانها) التباس يبقى عرضيا ً، الى حد ما، كما سنرى. ولنغادر ملاصقة المعلوف للمصادر، بمعنى الاكثار من الشواهد الحرفية، الطويلة والقصيرة، لنعمد الى مضمون النص المعلوفي. ولعلنا لا نثير استغرابا ً اذا قلنا ان بين أهم ما يشدنا في هذا النص فقرة صغيرة لا تتصل بسيرة فخر الدين نفسه بل بسيرة والده وجده. يقول المعلوف ان فخر الدين الأول وقرقماس "شيدا كلاهما القصور الشاهقة وسعيا بتأسيس حكومة نظامية في لبنان ووقفا الرعايا على اختلاف طوائفها وأجناسها واستمالا اليهما المسيحيين فاتخذا منهم المديرين وقربا الشعراء وأجريا عليهم الرزق وأديا الجزية للحكومة معترفين بسلطتها مع نوع من الاستقلال فكان الاقطاعيون الذين بنتخبونهم يفصلون الدعاوى الحقوقية والجزائية وهم يتصرفون في أحكامهم العليا فيقتلون وينفون ويملكون الأرض ويستجبون المال الأميري. أما الضرائب فلم تحدث الا للمطامع والمصادرة. وكانت لهم عادات وملابس وأخلاق خاصة وادارتهم أشبه بالاستقلال الاداري اليوم أو اللامركزية كما نسميها".

حتى اذا أفرغنا الجهد في ترسم الملامح التي يقدمها كتاب الملوف لصورة فخر الدين الثاني نفسه، صعب علينا أن نجد ملمحا ً يضاف الى ما سبق.. وكأن هذا الأمير لم يأت بجديد أو كأنه - بعبارة أضيق نطاقا ً- لم "يؤسس" شيئا ً. يصعب أيضا ً، وعلى الأخص، ان نعثر في نصوص معاصرة أخرى متعلقة بفخر الدين الثاني على مثل هذا التعداد الذي لا يدع بين مآتي الأمير الابن ومآتي والده وجده الا فوارق في الكم والدرجة. بل ان النصوص التي ترى في فخر الدين مبدع الكيان والدولة تنظر الى هذا الابداع عادة على أنه خروج نوعي على الوضع القائم قبله أو - أحيانا ً- على أنه "استعادة" للحظة كبرى من لحظات تاريخ الأرض لا يعود مهما ً مقدار بعدها الزمني عن عهد فخر الدين (المقاومة المردائية مثلا ً أو حضارة فينيقية). المهم أن لا تبدو هذه اللحظة متصلة اتصالا ً مستويا ً، أفقيا ً ان صحت العبارة، بما سبقها مباشرة أو بما تلاها مباشرة. فان انشاء الدولة المستقلة لا بد أن يحدث كسرا ً في زمن الطوائف والمناطق والأسر وفي زمن التبعية.. وان احتاجت هذه المنشأة الجديدة الى ركيزة وجودية تقدمها وحدة الأرض أو الى "سابقة" أو أكثر تبعد جدتها عن حالة "البدعة" المطلقة.

وما يحصيه النص أعلاه من منجزات وصلاحيات، ممكن الصياغة في عبارات أخرى تقربه الى المصطلح المتداول، بين معظم مؤرخينا المعاصرين، عند تناولهم عهد فخر الدين الثاني. اذ يبرز المعلوف "سيادة" رأس "الدولة" على الرعايا، واستواءه مرجعا ً لسلطة الاقطاعيين، يستمدونها من "انتخابه" اياهم ويبرز أيضا ً توحيد الطوائف. ويبرز أخيرا ً العمران والتعلق بالفنون واتخاذ "شارات" تدل خصوصيتها على تميز الجماعة وعلى وحدتها في آن معا ً. هذا كله يجعل من حديث المعلوف عن اعتراف الأميرين المعنيين بسلطة الحكومة العثمانية تحفظا ً محدودا ً على الاستقلال المشار اليه. اذ تقتصر فعالية الاعتراف المذكور، كما توحي صياغة المعلوف لجملته، على أداء المال الأميري. والمؤلف، في أي حال، لن يبدد تماما ً الالتباس المحيط بتصوره للاستقلال عند تطرقه الى مواقف فخر الدين الثاني نفسه. فهو سيظل يتحدث تارة عن ميل الأمير الى "الاستقلال الذاتي" وطورا ً عن رغبته في "الاستقلال"، دونما اعتناء بالتدقيق في الفارق ما بين الاصطلاحين.

أمر واحد جاء به فخر الدين الثاني لا يظهر له أثر في تعداد المعلوف لمنجزات والده وجده: وهو محاولته "استعمار"امارته" على طريقة الأوروبيين ". ولكن المعلوف بعيد هنا أيضا ً عن جعل هذه المحاولة محورا ً لسلوك فخر الدين، بجوانبه المختلفة ، بحيث يبدو الأمير وكأنه صدر عن رؤية موحدة الجوانب للدولة (سياسية، ادارية، عمرانية) ذات طراز أوروبي. فهذا "الاستعمار" يبقى واحدا ً من عناصر متفرقة في سلوك الأمير (وواحدة من التهم التي وجهت اليه) ولكنه ليس محورا ً لسلوك ذي صورة موحدة. حتى أن المعلوف يبدو ها هنا بالذات أقرب ما يكون القرب الى مصادره الأصلية، فينقل، بصدد اقامة الأمير في أوروبا، نص الخالدي الصفدي نقلا ً حرفيا ً.. هذا النقل ما كان ليسوغ لو ان المعلوف شاء أن يجعل من العلاقة بأوروبا محورا ً جديدا ً لسياسة جديدة. فان التوصل الى القول بوجود هذه السياسة يقتضي بادىء ذي بدء اتخاذ زاوية مختلفة عن الزاوية التي ينظر منها أي مصدر معاصر لفخر الدين. اذ كان محالا ً أن يحيط الخالدي نفسه ب "وحدة" تجربة لم يدرك نهايتها – آنذاك - ولا أدرك - بالطبع - الولادة الأخر التي اعتبر فخر الدين الثاني سابقة لها في القرنين التاسع عشر والعشرين. هذه الزاوية الجديدة يبقى المعلوف نفسه بعيدا ً عنها بمقدار ما يبقى في التركيب العام لنصه قريبا ً من وتائر الزمن في مصادره.

فاذا غادرنا الأسطر القليلة التي اجتزأناها من كتاب المعلوف في صدد والد فخر الدين الثاني وجده والأسطر القليلة الأخرى التي تحاول تقويما ً عاما ً لفخر الدين ولعهده، فعلام نقع؟ نقع بالطبع على صفحات مأخوذة من المصادر وفقرات قريبة اليها.. ولكننا، اذا تجاوزنا هم "النسبة" هذا، أي نسبة الكلام الى مصدره، أبصرنا لنص المعلوف سمة أخرى هي الأعم: وهي انه نص حفي بتفاصيل الوقائع، موار بالأعلام الشخصية والمكانية.. شأن مصادره بالطبع! وهذ سمة لا تتبدى أهميتها ما لم نعمد الى مقارنة هذا النص (الذي وجدناه "مخضرما ً" بسواه من روايات مؤرخينا المعاصرين لعهد الأمير المعني.

ولادة خرافة الدولة

في أي كتاب أو نص معاصر عن فخر الدين سنعود نقع على أسماء من طراز البلوكباشي كنعان الكبير وحسن الأعوج وبني البتروني أو بني لطيف وقبة درورس، الخ؟.. لا ريب اننا نصادف في كتاب الخوري بولس قرألي عن فخر الدين فهرس أعلام غنيا ً. وذلك أن قرألي هو أيضا ً جامع وثائق، الى كونه مؤرخ أسر. أما الفصل المطول - المتلاطم هو أيضا ً بالتفاصيل والأسماء - الذي يعقده يوسف مزهر عن فخر الدين فهو يغرف - صراحة ودون حساب - من كتابي قرألي والمعلوف، ولا يجاوز في شيء يذكر، رؤية الأول من هذين لعهد فخر الدين. ولكن ثمة بونا ً بين المعلوف وقرألي سوف نعود اليه. لا بد قبل ذلك من الالحاح على التجانس الواسع الذي فرضته "الدولة" - واقعا ً أو مشروعا ً - على رؤى عديدين - مؤرخين وغير مؤرخين - لفخر الدين. هذا قبل كتاب المعلوف وبعده. فمن جويلان الى لامنس ومن جورج سمنه الى يوسف السودا ومن فيليب حتي الى جواد بولس ومن عادل اسماعيل الى توفيق توما، نعثر على صور لا يستحيل اختزالها - وان ببعض الجهد - الى صورة واحدة. بل ان مؤرخين، من طراز قرألي وبطرس ضو يأويان مباشرة الى الخانة الطائفية المارونية، ولا يخرقان حدودها الا ابتغاء العودة اليها، يسعنا أن نحصي عندهما ملامح صورة فخر الدين المذكورة.

هذه الصورة احتواها الشعر أحيانا ً، والخطابة السياسية كثيرا ً، فلم تبق ملك الكتابة التاريخية. وقد كرسها هذا الاحتواء داخل نطاق الكتابة التاريخية نفسها. وذلك أننا هنا في وسط نصي كثيرا ً ما يصعب فيه رسم الحدود بين الأنواع. أما مبرر هذا الاحتواء فهو أن فخر الدين كرس باكرا ً- كما أشرنا - وجها ً مقلوبا ً ل "حركات" القرن التاسع عشر. واذا كان الضاوون الى كنف الدولة اللبنانية المعاصرة والراغبون فيها يمقتون حديث "الحركات" فيقدمونها، عادة، في رواية سلبية (لم تكن حدثا ً "أصيلا ً"، كانت شذوذا ً أو افتعالا ً، الخ..) فان هؤلاء أنفسهم أو من جرى مجراهم ظلوا، منذ أوائل هذا القرن حتى عهد قريب، يقبلون، بلا تحفظ على حديث فخر الدين. وكانوا في اقبالهم هذا لا يدعون، غالبا ً، جلاء صورة "جديدة" للأمير، مختلفة مثلا ً عن تلك التي سنقع عليها، منذ 1908، مع جوبلان.. كان همهم ينحصر في تعميق ملامح الصورة المذكورة بمحتوى وثائق جديدة أو في تقديمها داخل اطار جديد يزيدها وقعا ً أو في اضافة بعض تفاصيل وترك أخرى، لتركيز البصر على ملمح من الوجه وتبهيت سواه، الخ.

ما هي ملامح هذه الصورة؟ هي تلك التي غادرها لنا، في صفحات قليلة نسبيا ً، بولس نجيم. هي صورة أمير أطل برأسه من الثلم الذي أحدثته معركة 1585 (هذا هو التاريخ الذي يأخذ به نجيم ) بين الدروز والأتراك. وهي المذبحة التي أبيد فيها جانب عظيم من قومه ومن أعيانهم ومات فيها أبوه مظلوما ً. وافق هذا الحدث تسلم السيفيين امارة العسافيين، وكان الأولون رجال الأتراك (الذين أودت نميمتهم بقرقماز) بينما كان الأخيرون قد صاروا مع طول المدة أمراء "لبنانيين". اذ ذاك فهم مشايخ الموارنة الرئيسون ان "المحافظة على استقلال الجبل" تقتضي الاتحاد مع الدروز. هذه الضرورة هي ما جعلهم يختارون"زعيما ً مشتركا ً للبنانيين". ولم يقع الاختيار على أمير معني الا "لتسكين حساسيات الدروز". وليكون في عنصر هذا الأمير مزيد من النصرانية، يبرز المؤرخ أن الخوازنة هم الذين ربوه في كسروان، ويبرز دور مربيه المسيحي كيوان حضور أبي نادر الخازن وأبي ضاهر حبيش الى جانبه منذ أوائل حكمه. ف"برغم أنه كان درزيا ً، بدا منذ البدء زعيما ً طبيعيا ً لجميع اللبنانيين دونما تمييز ديني".

ولسوف تحكم خضة الولادة السياسية هذه (موت الأب - المثال واستواء "التركي" في صورة الآخر- العدو ") وما تلاه من "أبوة" نصرانية رمزية ، صورة الأمير - التي يقدمها لنا نجيم وأمثاله - من أول عهده الى نهايته. فاذا وقع هؤلاء المؤرخون في سيرة الأمير على ما يخالف الوجهة المرتسمة في هذه "الولادة"، اعتبروه شذوذا ً أو تراجعا ً ظرفيا ً لا بد أن أن تليه عودة الى الوجهة الأولى.

بعد الولادة ، يصف نجيم رحلة النمو. ويحظى السيفيون بأوقع الضربات خلال هذه الرحلة، اذ كانوا - على ما رأينا - في آن معا ً، العامل المحلي لموت الأب والخطر المباشر على "استقلال الجبل". ولكن الهدف الأخير لضربات الأمير، يبقى، في هذه الرواية، الدولة العثمانية، وان تذرع الأمير، في كثير من الأحيان، بولائه لها، ليبرر ما كان يكيله من ضربات للحكام المحليين. هذه الغاية الأخيرة هي ما تشير اليه، في رواية نجيم، وقائع عدة، من أبلغها دلالة احتلال الأمير لميناءي صيدا وبيروت. فهذا مرتكزان على الساحل "أمكن له أن يتصل منهما بالدول الأوروبية، اذ بدا له أن محالفتها ضرورية لارساء عظمة مقاطعاته اللبنانية". هذا النوع من التوجه الى دول هي - في مخيلة المؤلف - مثال الدول، لا يلبث أن تكمله، في النص، الرغبة المنسوبة الى الأمير في تحويل مقاطعاته الى دولة. فهو "كان يطمح الى أن يصير السيد المستقل لدولة كبيرة. ويدل على نفاذ عبقريته أنه لم يشأ المضي، على غير هدى، في طريق الفتوح، بل أراد أن ينشىء قبل كل شيء كوكبة سياسية محبذة لمراميه. أراد شأن كل الكبار من مؤسسي الدول، شأن فيلبس - أوغسطس وكافور وبسمرك، أن يعثر أولا على حلفاء وأن يفت في عضد أعدائه قبل أن يهاجمهم مباشرة". ثمة اذن في رحلة النمو التوسع. ولكن هذا التوسع توحيدي من جهة واستقلالي من الجهة الأخرى. هو توحيدي بتجاوزه حواجز المذاهب والمقاطعات؛ وهو استقلالي بقضمه من دائرة السيطرة العثمانية وقضائه على أركانها المحليين أو استتباعه اياهم أو كسره شوكتهم. وذلك أن ولاء الأمير الظاهر للسلطان لا ينبغي أن يغرنا. بل ان علينا أن نستخرج من سلوك الأمير مشروعه، لأنه، وحده، ذو الأهمية. وبين أمثل الأدلة على طبيعة هذا المشروع طبيعة الصلة التي أنشأها الأمير بأوروبا.. انه، على ما يبدي المؤلف ويعيد، مشروع دولة مستقلة.

على أن ما "ينمو" في رحلة التوسع لا يعدو أن يكون قاعدة الدولة وليس الدولة نفسها. هذه القاعدة هي ما يطلق عليه بولس نجيم اسم "الوحدة الوطنية"، قائلا ً ان الأمير"أيقظ الشعور" بها "عند أهل الجبل جميعا ً".. "وحدة الجميع" هذه كانت غايتها "الدفاع عن الاستقلال".. وهي الغاية التي تفضي بها الى أن تكون مشروع دولة، فتطرح فورا ً، متى حصل التسليم بحقيقتها، مسألة سلطة الدولة جهازا ً وشكلا ً.

لا يتردد نجيم في القول بوجود نموذج أوروبي لهذين الشكل والجهاز. عنده أن ما أنشأه الأمير المعني "لم يعد مقاطعة تركية، بل صار دولة لها حياتها الخاصة، تشبه البلدان المتمدنة في أوروبا الغربية أكثر مما تشبه ولاية من ولايات الباب العالي. بينما كانت الدولة العثمانية رازحة تحت أثقل استبداد عسكري وديني، وكانت الحياة الاقتصادية والفكرية فيها معاقة برمتها، كان لبنان يشهد في ظل هذا "الطاغية المستنير" كل روعة عصر النهضة". ذاك اذن هو اسم شكل السلطة في ظل فخر الدين: حكم "الطاغية المستنير" أو "المستبد العادل". في مكان آخر يطلق نجيم على شكل السلطة هذا اسما ً آخر مؤكدا ً صدوره عن أصل أوروبي هو الآخر مؤرخا ً بدايته بعودة الأمير من مغتربه الأوروبي. فهو "قد رأى، عن كثب، في ايطاليا، كيف كان الملك يلزم رعاياه جميعا ً بالطاعة، وكيف أمكن له، بخاصة، أن يحطم الاقطاع ويفرض سيادته المطلقة. كان قد عاد الى الشرق بتصور للملك بالحق بالالهي، مصمما ً على تحقيقه لمصلحته".

هذه "السيادة المطلقة" وما تستلزمه من تطويع لزعامات الاقطاع هي المدخل الفعلي الى مثال الدولة الذي ينسب المؤلف لفخر الدين تصوره والعمل بمقتضاه. فهي (السيادة) عنوان تمثيل الدولة "للوحدة الوطنية" و"مفارقتها" اياها في آن.. تمثيل "الوحدة" بالسلطة الواحدة ومغادرة التنوع المحال الى دائرة المجتمع الأهلي لارساء دائرة "للسياسة" منفصلة عن المجتمع المذكور.

يدل على انفصال هذه الدائرة انفصال أدواتها أو، في الأقل، محاولة الصياغة المنفصلة - وان تعثرت - لتلك الأدوات، اي لجهاز الدولة. يميز المؤلف في هذا الجهاز ما بين جناحين: الجيش والادارة، ملاحظا ً صلة النموذج الذي اعتمده فخر الدين لكل منهما بموقع "السيادة المطلقة" الذي عمل هو نفسه على احتلاله وتوطيده. أما عن الجيش فان الأمير "أكثر من استخدام المأجورين. فكان له جيش دائم موال له تماما ً بالاضافة الى جيش أتباعه". ذاك هو جيش السكمان الذي كان ضمانة - في ما عدا حماية الامارة كلها وتوسيعها - لسلطة الأمير المركزية، أي لسيادته على زعامات الاقطاع. فكان ضربا ً من الدرك انيط به "الى دوره في ضبط العدو الخارجي ، ضبط العناصر المشاغبة وغير المنضبطة في الداخل". والدوران، في نهاية الأمر، وجها سياسة واحد ، يجد نجيم، مرة أخرى، مثالها التاريخي لدى ملوك غربيين: فيليبس أوغسطس، فيليب الجميل، لويس الحادي عشر وخلفائهم . فان جميع الأمراءالذين ينزعون الى ارساء سلطتهم الشخصية على حساب الاقطاع، يبدأون أولا ً بتنظيم جيش لا يقوم عديده على الولاءات الاقطاعية وحدها، بل يكون جنوده مشدودين اليهم بأواصر غير أواصر التبعية، خاضعين لتنظيم أكثر شدة ولانضباط أكثر صرامة، ويكونون، بفعل أسباب انخراطهم نفسها، رهن الاشارة، فهم جيش دائم من المأجورين. (...) وذلك أن الجيش الاقطاعي لا يمكن أن يفي بحاجات سياسية كبيرة وسلطة مركزية وطيدة".. اذا كان انصباب الولاء السياسي من أطراف المجتمع نحو مركزه (أي تحقق الماهية الواحدة لهذا المجتمع في المركز المذكور، بما يعنيه هذا التحقق من مجانسة المجتمع للمركز) هو أمارة وجود الكيان السياسي، أي شرط الاستقلال، أو - في الأقل - أمارة راهنة لا ترد على الحق فيه، فان غربة المركز وأدوات سياسته هي، على العكس من ذلك، شرط عدم انجذابه الى تنوع المجتمع وتعدده، وهي، بالتالي، شرط عدم استحالة هذين التنوع والتعدد الى تفتت يدمر الكيان ويبيد الحق في الاستقلال. ذاك هو الازدواج النظري لقطبين: السلطة "الوطنية"، حاملة هوية المجتمع الخاصة، أي ممثلة فرادته، والسلطة "المركزية" الراسية، في مواجهة تعدد المجتمع وتناقضاته، على الانفصال والغربة، والشاهرة وحدتها في وجه احتمالات انهياره الدائمة. في هذا الازدواج النظري تكمن، في آن، ضرورة الدولة المنطقية واستحالتها المنطقية، وفيه ترتسم أيضا ً دائرة السياسة ومحلها من المجتمع "الحديث". واذ يضع بولس نجيم - مخطئا ً أو مصيبا ً - هذا الازدواج في قلب ممارسة فخر الدين الثانين فانه ينسب الى هذه الممارسة تصورا ً نظريا ً بالغ الدقة للدولة "الحديثة".. تصورا ً ما زالت ألوانه تحول - في نصوص المؤرخين - ودقائقه تطمس تحت سجف التكرار الدعاوي الصفيقة ، منذ بولس نجيم الى يومنا هذا.

هذا الجيش المنفصل، القابع أداة وركيزة لدائرة السلطة السياسية "المستقلة" (عن السلطان وعن المجتمع الأهلي)، يجد رديفا ً لسمته ووظيفته هاتين في "ادارة "فخر الدين أو في النزعة الى "الحداثة" التي نم عليها بناء هذه الادارة، وان كانت قد انتهت الى نكوص جزئي.

ف "بحسب مارتين حاول "الأمير" أن ينظم ادارة موافقة للمبادىء الحديثة، شبيهة بادارة آل مديتشي في فلورنسة، ذات هرم من الموظفين الأجراء، يسميهم الأمير ويظلون قابلين للصرف. ولكنه اضطر الى التخلي عن المحاولة. فان الاقطاع كان لا يزال عظيم القوة، ولم يفلح الأمير - على ألأخص - في العثور، خارج الاقطاع وفي مواجهته على معاونين أكفاء. عليه حاول أن يحكم موظفا ً التنظيم الاقطاعي في خدمة سلطته، شادا ً اليه بأواصر شخصية وثيقة بعض الأعيان من ذوي النفوذ البالغ الاتساع ".

هذه الاشارة الواضحة الى الحدود التي يفرضها المجتمع المحلي (لا السلطان العثماني وحده) على استقلال السلطة المركزية ، تمهد عند نجيم للحديث عن اخفاق تجربة الأمير. وذلك أن هذه التجربة أخفقت!.. وحين يعرض مؤرخنا لاخفاقها، لا يكتفي شأن العديد من لاحقيه، بالقاء التبعة على اللؤم العثماني أو على انعدام النخوة الأوروبي. بل هو يحاول أن يصوغ تفسيرا ً تتآزر فيه عوامل من داخل الامارة وأخرى من خارجها. وذلك أن أسطورة الأمير- المؤسس كانت لا تزال ، مع نجيم، تضج بنسغ الصياغة الأولى. لم تكن بعد جفت وامتلأت عروقها بغبار التشييء ليفقد المؤرخ الجرأة على اخضاع صاحب التجربة وتجربته لنقد يصل الى الأسس.

كانت التجربة قد أطلت بالأمير اذن على هدف "السيادة" ف "لم يعد يتحمل تبعيته لاسطنبول"، و"باشر منذ سنة 1620 اعداد حرب الاستقلال (...)". في سبيل هذه الحرب سعى الى توطيد الجبهة الداخلية (يذكر نجيم تزويجه ابنه عليا ً من ابنة الأمير علي الشهابي) وفي سبيلها واصل، دون كلل، جهوده للعثور على حلفاء في أوروبا. وهو وعد تكرارا ً مفاوضيه الأوروبيين بايصالهم الى أورشليم. ولا ينكر المؤلف أن تضافر ظروف دولية غير مؤاتية، في السنة الأخيرة من عهد الأمير (أهمها احتدام الحرب الأوروبية وحلول الطاعون في ايطاليا ) كان له أثره في انهيار التجربة اللبنانية. ولكن ثمة ، في رأي نجيم، عوامل أخرى تبقى هي الأولى بتفسير ذلك الانهيار.

يقول نجيم ان الأمير حينما وجد نفسه وحيدا ً، لا حليف له، ثابر على التقدم في "الطريق الخطر" الذي كان قد اختاره. "كان هدفه الأكبر في عامي 1632 و1633 أن يملأ بأقصى سرعة ممكنة صندوق حرب ضخما ً. واستهان، لهذه الغاية بكل شيء. صادر خصومه اليمنيين بقسوة بالغة. ثم ارتد الى أنصاره أنفسهم فزاد عليهم الضرائب وأكثر من الغرامات وقسا في الجباية. حتى "عم التعب والاستياء جميع أهالي الجبل. وما عتم نيره أن عاد لا يطاق". وكان يواصل ، مع هذا، استفزازه الباب العالي.
الخلاصة أن الأمير مضى في محاولة الاستقلال "بمزيد منن التسرع، دون أن يتمكن من ارساء قوته على قاعدة صلبة". فان الجبل اللبناني الذي عزل نفسه، على هذا النحو، بين أهاليه، كان هو معقله الوحيد الصامد. أما سائر الأقاليم التي وسع بها امارته فان انكشافها الاستراتيجي كان فادحا ً. ف "من دمشق ومن حلب ومن غزة كان ممكنا ً اجتياحها بسهولة، رغم القلاع، وحشر الأمير في لبنان". كان اتساع الامارة اذن مع بقائها دون حصانة سياسية وعسكرية كافية، عامل ضعف لا عامل قوة. وكان ولاء الداخل اللبناني للأمير ولتجربته قد زعزعته يد الأمير نفسه. ف "لم يكن يعترف بسلطته الا طالما بقي منتصرا ً. وما كان لهذه السلطة الا أن تنهار عند أول اخفاق يحيق به. بعبارة واحدة، لم يكن قد أفلح بعد في انشاء دولة". هذه العبارة الأخيرة تبدو مخالفة، الى حد ما، تقويمات أخرى رأينا المؤلف يقوم بها تجربة فخر الدين. ولكن المقارنة العامة بين سيرة فخر الدين في السنوات الثلاث الأخيرة من حكمه وسيرته في السنوات التي تلت عودته من ايطاليا، تخفف من هذا الانطباع. فان الأمير، في نهاية عهده "كان قد صار مبالغا ً في الحذر طاغية". وكان رعاياه "قد فقدوا حماستهم للقتال الى جانبه بسبب من استبداده الجشع الشكاك". أي أن خيبة التجربة (تجربة تأسيس الدولة) جاءت في النهاية من صلب التجربة نفسها: من ذاك "الانفصال" عن المجتمع الذي هو، في آن معا ً، أمارة وجود الدولة وعلة انهيارها.

لا يفوت نجيم أيضا ً أن يبرز وظيفة أخرى من وظائف هذه الدولة ووجها ً من وجوه علاقتها بمجتمعها هو الوجه العمراني. فيشير أولا ً الى أن الصفة المطلقة لسلطة الأمير على بلاده كان بين دلالاتها اعتباره الامارة "ملكا ً" له شأن لويس الرابع عشر الذي كان يعتبر نفسه "مالك مملكته ". ذاك الأساس السياسي لمسلك الأمير العمراني. ولقد كان لهذا المسلك غاية سياسية أيضا ً وهي تغذية خزينته لتقوم بحاجات خطط التحرير والتوسع والدفاع.. أما أهم مظاهر المسلك المذكور، عند نجيم، فكانت استقدام الأمير "عمالا ً وفلاحين ومهندسين وعلماء وفنانين تسكانيين غيروا وجه البلاد وأطلعوا الأهلين على أساليب التقدم العديدة التي عرفتها ايطاليا في مختلف الميادين". كانت جهود هؤلاء التسكانيين طليعة "النهضة" التي عاد بها لبنان "ازدهاره القديم". وقد عمت هذه النهضة الجبل والساحل ومدينتي صيدا وبيروت. وكان من مآتيها تعلم الجبليين تدريج أرضهم الى مصاطب وغرس البساتين وأحراج الصنوبر وتشجيع تربية دود الحرير والاهتمام بالري.. أي ما هو "زراعة وطنية وتشجير وطني " كان الايطاليون قد تعلموهما من السورين، أيام الحملات الصليبية. عمد الأمير أيضا ً الى تشجيع الصناعة والتجارة، اذ كان الأمير "كولبرتيا ً قبل كولبير. فكان يود أن تكفي دولته نفسها، ولهذا لجأ الى الحماية وتقييد التبادل، دون أن يجاوز الحد في هذا الأخير". وكان من مآتي النهضة أيضا ً تجميل مقاطعات الامارة بالعمارات المختلفة، من قصور وخانات وقلاع وجسور. الخ.. في هذا كله كانت مشاركة التسكانيين خصبة. ولكن توسع التجارة أثمر علاقات وثيقة بأوروبيين آخرين أيضا ً، منهم الفرنسيون.

هذه النهضة تصير، حين يقدمها نجيم بأسلوبه، وجها ً من جوه شبه الامارة بنموذج الدولة "الحديثة" الأوروبي وأداة من أدوات طبعها بملامح النموذج المذكور. فحديث النهضة هو، في النص، مناسبة اطلاق حكم سبقت الاشارة اليه: ان امارة فخر الدين صارت "أشبه بأقطار أوروبا الغربية المتمدنة منها بولاية من ولايات الباب العالي". وذلك أن نجيم يريد أن يقرأ في عمل فخر الدين ما هو أكثر من تأسيس "الدولة" اللبنانية بصفتها كيانا ً سياسيا ً "مستقلا ً" عن الوسط العثماني او – بعامة - الشرقي. انه يرى - أو يريد أن يرى - هذا الكيان مختلفا ً أيضا ً عن الوسط المذكور. ومهمة تأسيس الاختلاف هذه مهمة سوف يرث نسبتها، هي الأخرى، الى فخر الدين، ورثة بولس نجيم العديدون من مؤرخين وسواهم.

تجسد المثال وانحطاط النظرية

لا بد لنا أن نلاحظ ان اللوحات التي رسمها لفخر الدين وعمله ورثة نجيم هؤلاء، مالت باكرا ً نحو شيء من الانحطاط النظري. ولعلنا واجدين أسباب هذا الانحطاط في هموم السجال والدعاوة والتعليم التي اضطر فخر الدين الى حملها بعد نشوء لبنان الكبير. فحتى لامنس الذي رأى في الأمير سنة 1920 "أكثر المحاولات تماسكا ً وعنادا ً لتحقيق برنامج القومية اللبنانية الكامل" لا يفلح في ادراك الصلابة التي رأيناها لقاعدة نجيم النظرية. هذه القاعدة تحولت (وهو ما أشرنا اليه في مطلع هذا الفصل) الى "مصفاة" للمصادر، واعية أو غير واعية، رأينا أن المعلوف كان لا يزال قادرا ً على تجنبها، الى هذا الحد أو ذاك، وفي وسط الثلاثينات.

لم يمتلك آخرون مثل هذه القدرة، فصار التأريخ لفخر الدين فرصة اثبات مكرور (ولاحقا ً فرصة دحض) لدلالات بعينها هي تلك التي رأينا بولس نجيم يحصيها في تجربة الأمير.. وحد فخر الدين الطوائف والمقاطعات، بعث الكيان وبنى الدولة، فتح واجهة البلد على الغرب فصنع نهضته الحديثة، عادى الطغيان العثماني وزبانيته وآثر التحالف مع أوروبا المسيحية وتبنى مشروع "عودتها" الى المشرق.. تلك هي النقاط التي يشدد عليها، في الثلاثينات، الأب قرألي، في كتابه الضخم عن فخر الدين، وبخاصة على الأخيرة منها. ولكن قرألي بسبب من الطابع التوثيقي لعمله - وبسبب أيضا ً من انتمائه الى مدرسة تاريخية معينة - يقدم لوحة انجازات الأمير، مفككة، منثورة العناصر، في ثنايا فصول مبنية أصلا ً على المزاوجة ما بين تنسيق الوثائق وأسلوب الحوليات. تتحكم هذه المزاوجة في الحيز الذي تحتله كل نقطة وتحول دون استنفاد البحث في هذه النقطة أو في تلك ودون ادراك توازن ما بين النقاط أو تجانس يتحكم في تتابعها. هكذا مثلا ً نجد المؤرخ يستهل الجزء الأخير من الكتاب بفصل أول مكرس ل "فخر الدين سلطان عربستان 1621-1629".. في مطلع هذا الفصل نقع على عنوان فرعي أول: "برنامجه السياسي والعمراني". وتحت العنوان المذكور نقاط ثلاث: أ- "انجاز الوحدة اللبنانية" وهو قد حصل، في نظر المؤلف، باستعادة الأمير، بعد مصرع نصوح باشا، مقاطعات عديدة، وهو لا يزال في ايطاليا، وليها ابنه علي ، ثم بقهره، بعد عودته، ابن سيفا ويونس الحرفوش واستتباعه مقاطعاتهما. يخرج المؤرخ من هذه "الوحدة" سنجقيات عجلون ونابلس واللجون التي ضمها الأمير، في نظره، خدمة ل "هدفه البعيد في الأراضي المقدسة" حيث كان يريد أن يحل "الغراندوق صديقه وحليفه، فيحمي بقوات تسكانا حدود لبنان الجنوبية وبأسطولها شواطئه وموانئه". ثمة اذن "وحدة لبنانية" يفترض المؤرخ أن الأمير رسم لها حدودا ً هي نفسها، على وجه التقريب، حدود القرن العشرين.. وما تجاوز هذه الحدود دخل ، لا في سياسة الوحدة، بل في سياسة التحالفات والدفاع. ب- "قصر بيروت".. والمؤلف يحصر في انشاء هذا القصر وملحقاته ما يطلق عليه اسم برنامج الأمير "العمراني".ج- "سلطان البر".. ويذكر قرألي في هذه الفقرة منح الأمير هذا اللقب وجولته في البلدان التي قلده السلطان حكمها بموجب اللقب المذكور.. هذه النقاط تتجاذبها قيود المصادر وترتيبها الزمني، من جهة، والرغبة في الافضاء الى صورة "مناسبة" للأمير، من جهة أخرى، فتفضي بها الى التنافر الذي رأينا. وبعدها مباشرة يتنقل المؤرخ الى حديث سفراء الأمير الى الغرب، في تلك الحقبة: "سفارة المطران جرجس بن مارون الثانية"، و"سفارة الخوري يوحنا الحصروني".. والأمر يتعدى مجرد الرغبة في نشر الوثائق المتصلة بالعلاقات بين فخر الدين والغرب المسيحي. فان صورة فخر الدين، عند قرألي، مائلة سلفا ً نحو ركنها الغربي. هكذا يسع المؤرخ أن يصرح بأن "احتلال الأراضي المقدسة" كان، في نظر الأمير، هدفه السياسي الأعلى "، لم ينسه اياه تنصيبه سلطانا ً على بر عربستان. ولا ريب أن اختيار هذا "الهدف"، من جانب المؤرخ، هدفا ً رئيسيا ً للأمير لم يكن قليل الأثر في تصديع الصورة النظرية التي رسمها الأول للثاني.. شأنه في ذلك شأن "النوع" التاريخي الذي ينتمي اليه كتاب قرألي. فلا يستوي، من حيث شمول الزاوية وامكان التماسك، أن تعتبر الدولة، أي تجسيد وحدة المجتمع ، محورا ً لعمل الأمير، بوجوهه المختلفة (حالة نجيم) وأن يعتبر تسخير الداخل لخدمة هدف خارجي، أيا ً كان، هو هذا المحور. لا بد أن تذوي، في الحالة الثانية، "أجساد" الأعمال التي تلوح بها المصادر المتنوعة معالم لسيرة الأمير، وأن تغور مادتها في طرف واحد متورم. بينما يبني نجيم صورة مشدودة الأطراف الى محورها الداخلي، يبني قرألي صورة مشدودة من أحد أطرافها نحو الخارج.. وذلك برغم أن أوروبا المسيحية، نموذج راسخ الحضور في نص نجيم أيضا.. بل أولى بنا القول: بسبب هذا الحضور، لا برغمه .. فان أوروبا هذه لا تعود عند قرألي نموذجا ً.. بل تصير قطبا ً لا خيار أمام الأمير الا الانشداد اليه والالتحاق بأكنافه.

هل يكون الفارق بين نجيم وقرألي هو نفسه الذي كان بين " متصرفية " تبقى لها، في أول القرن ( برغم نفوذ القناصل و"الأم الحنون" وعثمانية السلطة) شيء من هذا " الاستقلال" الذي كانت تبدي أشد التعلق به، ودولة افترع الانتداب داخلها وصار هم المؤرخ لتأسيسها أن يقدم تاريخها عاى انه حلم طويل بالانتداب؟ كان لنا أن نجزم بهذا لولا خوف الوقوع في قراءة تلبس مؤرخينا من توجهات القارىء مقدار ما ألبسا من توجهاتهما سيرة فخر الدين.

بعد الاستقلال: حدود الشراكة

لم يضف مؤرخو ما بعد الاستقلال الى ما جاء به نجيم غير ما رأينا قرألي لتونا "يضيفه" الى نفسه في كتيبه الأخير: بعض الخطابة التي تضخم استقرار ما كان نجيم قد اعتبره معالم للاستخلاص من ركام المصادر. هؤلاء المؤرخون كانوا قد صاروا يمتلكون، بعد نشر كتب المعلوف والخالدي وقرألي في الثلاثينات سيلا ً من العناصر الجديدة غنيا ً بالالتباسات يتيح توزيع الظلال والأضواء، على جنباته، تأليف صور مختلفة للأمير. ولكن المكترثين لتاريخ الجبل - وللأمير المعني بالتالي - كانوا غداة الاستقلال موحدي الصف أكثر من أي وقت مضى. وكان خصومهم - كما أشرنا مرارا ً- يضربون ، ببساطة، صفحا ً عن الجبل وعن تاريخه. هكذا أمكن أن نلاحظ التقاء ً أكيدا ً في النظرة بين أهم كتابين تناولا فخر الدين في الأربعينات والخمسينات، وهما كتاب ميشال شبلي وكتاب عادل اسماعيل. ويشيرهذا اللقاء الى استقرار مقاليد الهيمنة خلال تلك السنوات عند تيار يعتبر ميشال شيحا ممثله الأهم ويعتبر الأب لامنس ملهما ً تاريخيا ً له، برغم بعض الاختلاف في زاوية النظر.

ان ما يثير العجب لأول وهلة، عند هذا التيار، عودته الى دولة رقيقة الحاشية، يصعب العثور لها على "مادة" خاصة بها مستقلة عن طينة المجتمع الأهلي. يصح هذا الحكم على شبلي الذي تشده الى شيحا "لغة" مشتركة تامة وعلى اسماعيل الذي ينحرف بنصه قليلا ً عن الزاوية الشيحوية. فعند الاثنين يغور حديث الدولة بوصفها نصابا ً رمزيا ً لوحدة المجتمع، منفصلا ً عن هذا الأخير، و"تهبط" الوحدة ، مرة أخرى، لتستقر ما بين الطوائف نفسها وما بين المناطق. وذلك رغم أن المؤرخين يكثران كلاهما من حديث "الكيان" و "الاستقلال". فها هنا لا نعود نعثر على ما يعادل حديث نجيم عن نظام فخر الدين "الاستبدادي" وعن ذاك "الطاغية المستنير" الذي كانه الأمير المعني. بل لا نعود نعثر على حيز مستقل لما كان المعلوف يسميه "أخلاق" الأمير، معتبرا ً هذه "الأخلاق" ، ضمنا ً، عاملا ً ذا فعالية في توجيه سياسة الأمير وتحديد منجزاته ، مستقلة عن فعالية القوى التاريخية التي عمل الأمير في وسطها. يغور هذا كله وينتقل النبر الى "الأقليات" والى "لقائها" على أرض معدة اصلا ً لهذا اللقاء.. واذا حصل تشديد على تجاوز هذه "الكثرة" التي كانت تسم ، حتى عهد الأمير ، "مقدونية الأمم الصغيرة"، فان التجاوز المشار اليه يكون الى "الوطن" والى "الأمة" أي الى المجتمع نفسه، بصفته السياسية ، وليس الى سلطة الدولة ونظامها. فعند اسماعيل أن فخر الدين "فهم (...) على نحو يثير الاعجاب أن التسامح الديني كان ولا يزال أول واجبات الحكم، في سبيل قيام وطن، وبخاصة في لبنان (...)" وعند شبلي ان "هذه الحرية الدينية التي أرسى فخر الدين دعائمها منذ القرن السابع عشر ليست أقل مؤهلات لبنان للاستقلال".. فكأن موقع السلطة صار، عند شبلي واسماعيل، هو ذاك الذي "يطلق" قوى المجتمع اذ يرفع عنها قيودها، وليس ذاك الذي "يقود" هذه القوى ، أي يضبطها في استخدام موحد يتولى، هو، املاء وجهته.

هذا اللقاء العميق بين المؤرخين الماروني والسني (الجبلي) قد يلقي عليه ضوءا ً ما انصباب القوى الطائفية على اقتسام سلطة الدولة وأجهزتها، غداة الاستقلال (وقبله) ، وليس على ارساء استقلال الدولة عن القوى الاجتماعية. وهو - أي اللقاء - لا يلبث أن يضطرب، على أي حال، في مواطن غير خالية من الدلالة.

يمكث شبلي غير بعيد عن قرألي ، في صدد سياسة الأمير الخارجية. فهو يقدم أولا ً أساسا ً "لبنانيا ً" دائما ً لطلب الأمير معونة الدول الأوروبية. فيشير الى أن "موطن الأقليات المضطهدة" هو أيضا ً "ملتقى الأمم"، والى أن "اللبنانيين لم يكونوا يترددون في طلب العون والحماية حيث يكون ذلك قادرا ً على ضمان حرياتهم وعلى فرض احترام معتقداتهم وتقاليدهم". ثم انه، على امتداد الكتاب، يشيد بجهد الأمير لتوثيق علاقاته بأوروبا، على اختلاف الوجوه التي قيض لهذه العلاقات أن تتخذها: من التحالف السياسي الى توسيع التبادل التجاري الى الاستعانة ب "الخبراء"الأوروبيين الى استقبال المرسلين.. حتى اذا ذكر المؤلف موت المطران جرجس مارون، أبرز سفراء الأمير الى البلاطات الأوروبية ، لم يتمالك نفسه من الانشاد بعد مسترال:

"مات البناة ولكن المعبد ثم بناؤه".

ولا يخفي شبلي أن توطد النفوذ الفرنسي ورعاية المرسلين هما أهم ما يجده حريا ً بالاعجاب في سياسة الأمير الخارجية. ولا يخفي بالطبع عطفه على مشروع "الحملة الصليبية " الذي كرس له المطران جرجس مارون جهوده السياسية.

هذه النقطة، على وجه التحديد، هي مثار اعتراض من عادل اسماعيل. فعنده "أن المرء لا يتمالك نفسه من الشعور بضيق عميق عند النظر في سياسة الأمير الخارجية". وهو "لا يعتقد" أن الأمير امتلك وسائل الاستقلال عن الباب العالي أو أحسن اختيار تلك الوسائل، هذا برغم ان اسماعيل بعيد جدا ً عن انكار المآثر العمرانية والاقتصادية لانفتاح الأمير على أوروبا.. وبرغم انه، يتعجب كثيرا ً من عناد الأمير في مصادقته توسكانة ومن انصرافه عن فرنسا ريشيليو التي كان "يسع دعمها أن يوفر للبنان، بالاتفاق مع الباب العالي، الاستقلال، أو، في الأقل ، استقلالا ً ذاتيا ً واسعا ً جدا ً" وليس اسماعيل بعيدا ً عن اتهام مستشاري الأمير من الموارنة " الذين كان ولاؤهم للفاتيكان يسبق عندهم كل اعتبار آخر" بزج الأمير في الطريق التوسكاني المسدود.

هذا التحفظ نفسه، عند اسماعيل ، نجد له - أو لدوافعه العميقة - صدى آخر. يدرك هذا المؤرخ أن شخصية فخر الدين ومنجزاته لا تتخذ دلالتها الاستثنائية الا من مواجهتها بالعثمانيين وبسيطرتهم. وهو يشاطر شبلي وقرألي وأضرابهما وضع العثمانيين في دائرة لا يطول اليها تعاطف المؤرخ ، بالغا ً ما بلغ من التسامح. ولكنه حين يوظف من البلاغة ما يوظف في وصف الفساد العثماني، يميل، على غير انتظار، الى روما ثم الى بيزنطة فيتوسع في ذكر مخازيهما ، مؤكدا ً مثلا ً أن روما "كانت ، خلال القرنين الأخيرين قبل المسيح، أروع مدرسة للفساد في العالم القديم " ثم مشددا ً على "الحكم المطلق والتعصب وضيق الأفق الديني، والجهل وعدم الأمان والبؤس" التي كانت سائدة في العديد من أقطار أوروبا أيام كان العثمانيون واضعين أيديهم على المشرق. هذا التحفظ يصعب جدا ً تخيله خارجا ً من ريشة شبلي أو من ريشة قرألي.. ونحن اذا قرنا تحفظ اسماعيل هذا الى "نصحه" فخر الدين بالاتكال في سبيل نيل "الاستقلال" - أو شيء منه - على نفوذ فرنسا لدى الباب العالي وجدنا للنص كله سمة لا يبددها توافقه الحرفي وشبلي على تقدير أمور ذات أهمية: وهي أنه لا يسيغ تنصيب الأمير "ممثلا ً" أو "تجسيدا ً" جزئيا ً لبديل مسيحي عام، موضوع في وجه وضع اسلامي عام. لا يسيغ اسماعيل احاطة رأس الأمير بهالة نور مسيحية تواجه "عصور الظلام " العثمانية أو الاسلامية باسم حضارة أوروبا المسيحية. أي أنه ، برغم انشداده الى تضاعيف المجتمع الأهلي وخطوط انقسامه، يأبى - وان بشيء من التقطع - أن يلتف جانب طائفي واحد، باسم الحضارة، على هذا الكائن الذي بدا، الى حين، أن في الوسع تسميته دولة الوحدة اللبنانية.

البعض يفضله درزيا

وذلك أن هذه الدولة، قبل اسماعيل وبعده، موضع نزاع. صحيح أن من شروط وجودها بقاؤها بمنجاة من أن تضع عليها اليد طائفة واحدة. ولكن مؤرخي الطوائف الذين كتبوا سيرة فخر الدين، كثيرا ً ما تعلقوا بأهداب حلم متناقض ، مآله الآتي: ان طائفتي هي صانعة الدولة اللاطائفية، فالدولة اللاطائفية هي اذن دولة..طائفتي.. لن يكون عدلا ً أن تتساوى الطوائف الا كما تساوت حيوانات أورويل: طائفتي صنعت المساواة بين الطوائف، فلا يصح اعتبارها، والحالة هذه، مساوية لأية طائفة أخرى.. هي تقول، بوحي من عظمتها، ان الطوائف متساوية (مساوية لها بالتالي)، فلا تصدقوها الا بالقدر اللازم لاظهار تفوقها على سائر الطوائف.

ومدار النزاع الأبرز هو بطبيعة الحال مواقع الطوائف المختلفة من "دولة" فخر الدين، وأدوارها في منجزاته. ثم هو أيضا ً هوية هذه الدولة المتجاذبة بين "عروبة" الامارة و"لبنانية" الكيان و"سورية" الأفق، ونموذج العمران "الأوروبي" (اي "المسيحي") ونموذج النظام السياسي "الاسلامي"، الخ.. يناقش هذا كله صراحة أو ضمنا ً (أي بطرح الرأي دون الاشارة الى وجود آراء تخالفه ) بين المؤرخين الحادبين على تجربة فخر الدين المعترفين ب "فضل" ها. وتدفع الرغبة في الابقاء على صورة للأمير مطمئنة البساطة وفي درء بعض فلتاته المخيفة بأصحابها الى مكابرات عسيرة على الهضم. ولكن أغنى مظاهر "النزاع على فخر الدين" محتوى ً رمزيا ً هو بلا ريب النزاع الدائر على ديانة الأمير. وهو نزاع تتراوح المواقف فيه بين الجزم الفوري - الذي لا يخفي ضيقه بأي تشكيك - والاسهاب المستميت. لا غرو أن الأمير درزي عند كمال جنبلاط الذي لا يكتب بلغة المؤرخين المحترفين ولا يطيل المكث عند خلافاتهم. والأمير درزي أيضا ً عند عباس أبو صالح. ف "قد أثبت مؤرخون معاصرون للحكم المعني اعتناق المعنيين للمذهب الدرزي كالمحبي والدويهي. وأكد درزيتهم مؤرخون متأخرون كفيليب حتي وبولس قرألي وكمال الصليبي". لا خلاف اذن لولا أن الخلاف مستمر. فثمة من يجد سندا ً لسنية الأمير في الخالدي مثلا ً من المعاصرين وفي غير واحد من "المتأخرين". ولكن من الملاحظ أن أصحاب النزعة "الجبلية" من الكتاب الموارنة (وعادل اسماعيل أيضا ً) "يؤثرون" أن يكون الأمير درزيا ً. نضيف الى الذين يذكرهم أبو صالح بولس نجيم وجواد بولس، الخ.. وفي هذا حفاظ على نوع من "الخلوة" المارونية الدرزية وابراز لاستقلال شخصية الجبل تجاه "المحيط " المسلم وسلطته السياسية. ولكن هذا ليس المخرج الوحيد المتاح أمام المؤرخ الماروني الى معالجة مناسبة مارونيا ً لحالة الأمير. فان مؤرخا ً له تعصب بطرس ضو وحرصه على الخلوة المذكورة ، لا "يجعل" فخر الدين درزيا ً.. بل لا يتوقف عند ديانته أبدا ً، مكتفيا ً ب "عطف" الأمير (بالمعني النحوي) على الموارنة والدروز وكأنه فريق ثالث هذا يسعف المؤرخ على منح دعوى تنصر الأمير أهمية تاريخية ضخمة، دون أن يظهر هذا التنصر ارتدادا ً عن مذهب الدروز، شركاء الموارنة في الجبل!

في أي حال لا تحظى "درزية " الأمير باجماع معاصرينا من المؤرخين. يطعن فيها طعنا ً ذا دلالة خاصة من يرفضون هذه "الخلوة" الدرزية - المارونية في الجبل، أو "انعزال" هذا المرتكز الجبلي الذي يجهد، من جهته، لاظهار مناعته قبل أن ينطلق متوسعا ً. هكذا يبرز زكي النقاش اعتراف الأمير باقامة صلاة الجماعة وتعدد زوجاته وترشيحه ابنه ذات مرة لامرة الحج وصلاة الأمير علي على ينبوع عنجر أدلة على ملازمة الأمير سبيل أهل السنة والجماعة. ولكن النقاش الراغب قبل كل شيء في كسر المواجهة التقليدية بين المجتمع الجبلي والوسط الاسلامي يبدي حرصا ً شديدا ً على عدم اغاظة الدروز بعد أن رد دعوى انتساب المعنيين اليهم. فهؤلاء "كانوا مسلمين، ولكن على مذاهب أهل السنة، وهذا بحد ذاتهلا يزيدهم شرفا ً على اسلامهم، ولا ينقص المذهب غيرهم فخرا ً على فخر، بانتسابهم الى الاسلام، فالاسلام التزام بالعقيدة والمذهب انتماء الى الاجتهاد... " بين هؤلاء الذين لا ينقصون فخرا ً، نجد الدروز، بالطبع، اذ يرى فيهم النقاش "المسلمين دينا ً والموحدين مذهبا ً". هذا ولا تستحق المسألة كلها (مسألة ديانة الأمير بما فيها دعوى تنصره) أية مناقشة في نظر العقيد ياسين سويد.. اذ "رغم أن اسلام فخر الدين أمر لا جدال فيه ولا لبس، فقد كان في مرتبة من التسامح الديني جعلت الكثير من معاصرين ومؤرخيه العرب والأجانب يدعون تنصره، مستندين في ادعائهم هذا الى تسامحه الديني وليس أكثر "!

الدولة المهتدية


ما هي دعوى تنصر الأمير هذه؟ طبيعي أننا نجدها مفصلة في نصوص المؤرخين الموارنة الراغبين في "مجانسة" الأمير (ودولته) مع طائفتهم الى أقصى درجة ممكنة . وليست دعوى التنصر مرتكزا ً وحيدا ً لاستراتيجية "المجانسة" أو "المماهاة" هذه. بل يسعفها دور الموارنة "حول" فخر الدين من جهة و"مارونية" الاتجاه الذي اختاره الأمير لسلوكه، أي سبق الموارنة الى اتخاذ هذا الاتجاه نفسه. ففي "مارونية" الاتجاه تندرج أفكار "الاستقلال اللبناني" و"الانفتاح" السياسي - الحضاري على أوروبا المسيحية و- في بعض النصوص - العناية بالعمران والفنون، الخ.. أما دور الموارنة حول الأمير فيبدأ ، في نصوصهم ، بحضنة وتربيته، بعد موت أبيه، منذ عهدت والدته به وأخيه يونس الى الخوازنة الذين ربوهما، حسب عبارة نجيم، "باعتناء بالغ". وهذه بالطبع بداية لم تفت قيمتها السجالية أيا ً من فرقاء النزاع على الأمير. ومرجعها تاريخ شيبان خازن المخطوط المحفوظ في البطريركية المارونية، وقد استعارها منه الأب بولس مسعد ونسيب وهيبة الخازن في الأصول التاريخية 72 ولكنها، كما يظهر من عبارة نجيم، كانت معتمدة قبل نشر نصها الأولي. والشك في هذه الحكاية نفسها قديم أيضا ً يرقى الى البطريرك الدويهي! على أن أحدا ً لم يكن يولي بواعث هذا الشك عناية ما قبل أن ينشب النزاع على دولة فخر الدين .. ونحن سوف نشير بعد قليل الى طبيعة الظرف الذي نرى أنه أتاح هذا النزاع ، في السنوات الأخيرة. ما يهمنا قوله فورا ً هو أن النزاع المذكور كشف "الاجماع " السابق على تجاهل مبررات الشك في تربية الخوازنة فخر الدين وأخاه. وأحدث أيضا ً ميلا ً لدى غير الموارنة الى الأخذ بهذه المبررات سندا ً لموقف قاطع من المسألة. ها هو زكي النقاش يوافق كمال الصليبي (وهذا أمر نادر!) على قوله في حاشية ان اقامة فخر الدين في ربوع الخوازنة ما هي الا "اسطورة متأخرة وضعت لتفسير عطف الأمير على هذه الأسرة المارونية". ولكن النقاش يأخذ على خصمه انه في ما مضى.. في تاريخ لبنان الحديث كان قد روج بدوره لهذه الأسطورة.. يحذو حذو النقاش مؤرخ أكثر هدوءا ً منه هو ياسين سويد اذ ينوه بشك الدويهي في الرواية وبنقض منير اسماعيل اياها ثم يؤيد ردها "لمجافاتها للمنطق من جهة، ولعدم ثبوت الدليل من جهة ثانية، ثم لاغفال ذكرها من المؤرخين القدامى المعاصرين للأمير من جهة ثالثة، وكان أولى بهؤلاء أن يذكروها ، وخاصة الخالدي الصفدي، مؤرخ الأمير".

يتصل الحرص الماروني على ابراز فضل الطائفة في انشاء دولة الأمير من حكاية نشأته الخازنية هذه الى أدوارهم في أجهزة حكمه.. والخوازنة متصدرون هنا أيضا ً. ثمة بالطبع "القائد العام" أبو نادر الخازن. ويخص نجيم بالاشارة أبا ضاهر حبيش. وثمة الرعية المتواضعة من فلاحين وأهل حرف وجنود.. تشدد النصوص المارونية على وفرة أعدادهم وعلى شجاعتهم وحذقهم وعلى ما خصهم الأمير به من ثقة وتقدير . وثمة أخيرا ً - كيف ننساه؟ - الحاج كيوان. وحالته كاشفة بسبب من اللبس المحيط بأصله وفصله. فالذين يجدونه مارونيا ً من آل نعمة الديريين يكبرون شأنه ودوره (نجيم، ضو، جوزف نعمه). أما ميشال شبلي الذي يرى في كيوان انكشاريا ً خبيثا ً لا يمت الى الموارنة بصلة قريبة ولا بعيدة، فهو يتقصى سير هذا الشبح الخطر ويعثر له على اصبع في كل ورطة سقط فيها الأمير ويشدد على اتباعه سياسة خاصة به لتحقيق مطامعه الشخصية على حساب هذا الأخير. حتى اذا جاء عام 1623 كان قتل الأمير مدبره بيده ، عند بوابة من بوابات بعلبك، خاتمة لا تعوزها المبررات لنشاط عشير السوء هذا.. ثمة أخيرا ً سلك فخر الدين "الخارجي". المطران جرجس بن مارون والخوري يوحنا الحصروني والأب ابراهيم الحاقلاني.. في هذا السياق المتشعب تجد حكاية تنصر الأمير موضعها. فهي تريد أن تكون في هذه النصوص - ان شئنا - سفر الأمير الى نفسه أو معركته مع نفسه، شأن رحلة السندباد السابعة. اذا كان النصارى هم الذين ربوا الأمير وهم الذين نصروه وهم الذين عمروا دياره وهم الذين رسموا معه - بحكم موقعهم وصلاتهم - خطوط برنامج تتلخص فيه حياته السياسية ، فأي عجب في أن يتعرف الأمير بين ظهرانيهم الى هويته نفسها؟

يظهر تنصر الأمير في الحكاية الوحيدة التي روته لنا - وهي رواية سجل الارسالية الكبوشية في لبنان وسوريا - منفذا ً لأزمة شخصية عاناها الأمير في السنة التي شهدت هزيمته الأخيرة. ولكن راوية من طراز قرألي لا يعدم صلة يقيمها ما بين تنصر الأمير واستنجاده بالنصرانية الأوروبية (بكرسي روما) عشية أسره. فيصير علينا ان نستجلي في صيحة الأمير الأخيرة، لا مجرد الشعور بالخطر العثماني المحدق، بل أيضا ً علامات ولاء روحي بات الأمير يدين به لمن يستنجدهم. ولعل هذا الولاء حقيق في نظر قرألي أن يحدو بنا الى اعادة قراءة كاملة لسيرة الأمير. فلا تعود مكانة مسيحيي الداخل عنده وتوجهه - بتوسطهم غالبا ً- الى البلاطات الأوروبية ، ولا تعود وجهته السياسية برمتها قائمة على مجرد حسابات أملتها الاستراتيجية السياسية. بل تصير هذه الاستراتيجية نفسها جانبا ً من قدر روحي آخذ في الاكتمال. ويكتمل هذا القدر فعلا ً، على الصعيد الشخصي ، يتدخل علاقة الأمير بالنصرانية في حيثيات اعدامه، اذ يصير الموت، في آن معا ً، نقطة النهاية ونقطة الكمال.

لا غرابة أيضا ً في أن هذا التدرج من احتضان الأمير يافعا ً الى شد أزره شابا ً وكهلا ً (بتشكيل النصارى قوام دولته وتشكيل توجهاتهم التاريخية قالبا ً لسياسته ) الى تبنيه في الروح مريضا ً فميتا ً، يتخذ، في بعض النصوص المارونية ، أبعادا ً تطول الى التاريخ اللبناني برمته. فيبدو التدرج المذكور نوعا ً من الصورة المثالية لتدرج آخر في معارج الانتساب الى "دولة" هذا التاريخ اللبناني. هكذا يبيح بطرس ضو لنفسه أن يرى في "اهتداء" فخر الدين الى الكثلكة نقطة الأوج في مسيرة "تلبننه". ثم انه يوسع هذه المسيرة الى دائرة ثانية هي دائرة الأسرة المعينة كلها. كانت هذه الأسرة قد نزلت الجبل أول مرة في العهد الصليبي، متحالفة مع التنوخيين ولاحقا ً مع الشهابيين ، لمناهضة الصليبيين الذين كان موارنة الشمال يوالونهم عهد ذاك. فيكون تنصر فخر الدين أيضا ً علامة بلوغ هذه الأسرة حالة "اللبنانية" التامة في ختام انتقالها البطيء من "العمالة" للدولة الاسلامية ومعاداة الموارنة الى مقاومة هذه الدولة معتمدة على الموارنة أنفسهم، مستلهمة الغرب الكاثوليكي وساعية الى محالفته. هذا السياق الذي يزاوج ما بين الاسلام وعاداة لبنان من جهة والكثلكة أو المارونية واللبنانية من الجهة الأخرى لا يلبث ضو أن يوسعه الى دائرة أخيرة ليشمل سائر عائلات الأمراء ممن حكموا لبنان أو بعض مقاطعاته بعد فخر الدين. أمام الرغبة في امداد خرافة هذا حجمها بما هو ضروري لبنائها يصير لزوم المؤرخ جانب الشك المتواضع في تنصر فخر الدين أو عدمه - وهو الجانب الذي يلزمه المعلوف مثلا ً- أو جانب الالمام "الموضوعي" بظروف تنصر عائلات الامارة، أمرا ً نابيا ً لا محل له. وذلك أن الخرافة لا تحتاج الى "الموضوعية" ولا الى "الشك" وأنها أدرى بحاجاتها من جميع المؤرخين.

على أن ثمة نقطتان تبدوان، من المكان الذي نقف فيه هنا، أهم ما في هذه المسألة الأخيرة. النقطة الأولى هي ما تنم عليه المسألة المذكورة من انكفاء ماروني دائم نحو مسألة الأصل. ونحن نعرف منذ القسم الثاني من هذه الدراسة، أن النصوص المارونية لا تختص دون سواها من نصوص التاريخ اللبناني باعتماد الأصل محورا ً لها. ولكن هذه المسألة تتخذ فيها صيغة مميزة بسبب دعوى أسبقية الموارنة الى "اللبنانية" على سائر الطوائف. فهم "لبنانيون" منذ بدء وجودهم في الجبل، وجوهر لبنانيتهم هذه سعيهم الى الاستقلال بالجبل في مواجهة المحيط "الغريب"، المسلم بخاصة. هكذا يحتلون سلفا ً موقعا ً "أعلى" أو "أمثل" يتسلق اليه "آخرون" عبر تطور زمني. وما يتم في الزمن هو - على ما رأينا - بالضرورة دون ما هو قائم منذ البدء. وذلك أن الفضل هو للقطب الثابت على ما ينجذب اليه، وهو للأصل القديم على التاريخ الحي. هذا الفضل يردم بين ما يردم فارق الموقع السياسي - الاجتماعي بين فخر الدين الحاكم - وسائر الأسر من الأمراء - ورعاياه (ورعاياهم) من الموارنة. وهو فارق لا بد من ردمه بالنظر الى ما له من قيمة رمزية لا يؤدي النفس "الفلاحي" أو "الشعبوي" (جزئيا ً) في النصوص المارونية الى نكرانها أو التنكر لها. لا يقول المؤرخون الموارنة أبدا ً ان الفارق بين الحاكم والمحكوم هو مبدئيا ً فارق لا يعول عليه أو أن المحكوم هو، مبدئيا ً، خير من الحاكم . فكيف اذن يردمون هذا الفارق؟ بالقول ان الموارنة كانوا هم الجسد الثابت الذي تمثله هؤلاء الحكام كسرا ً متتابعة الى أن امتثلوا لدواعيه.. فكأن ما يجري مناولة يضطلع فيها الموارنة بمهمة جسد المسيح ودمه! على أن المناولة هنا لا تفترض الايمان، بل تكونه شيئا ً فشيئا ً في الزمن. وهكذا تصير نسبة القيمة بين الموارنة وحكامهم (من المتوجهين نحو المارونية) شبيهة بنسبة القيمة بين المسيح وملوك الأرض. ويصير منتهى قيمة الحكام أن يتوصلوا الى الانحلال في الجسد الماروني (الديني ، السياسي، الحضاري) أي يصيروا في الزمن ما كانه الموارنة منذ الأصل: لبنانيين - موارنة بلا فصل!

أما النقطة الثانية - وهي جلية سواء عند ضو أو عند النقاش أو عند جنبلاط - فمؤداها، ببساطة كلية، أن الدولة
موضع نزاع من حيث أصلها. أي أنها أبعد ما يكون البعد عن أن تكون رقعة محايدة بين الطوائف. صحيح أنها مقيمة في ما سميناه خجل الطوائف، أي في حيز تنازلت عنه هذه الأخيرة مضطرة ولكنها لم تكشف عنه ظلالها. هذه الظلال لا تفتأ تقتتل في الحيز المذكور ويجهد كل منها لتغليب لونه بين سائر الألوان وتوسيع حصته على حساب سائر الحصص . ليس التنازل نهاية للصراع اذن، وانما هو مبرر لحلول الصراع بين ظلال الطوائف محل الصراع بين أجسادها. لا تقول الطائفة انها تريد أن تكون هي الدولة - دولة نفسها ودولة الطوائف الأخرى - بل تشير ببنانها الى ما لها من فضل في انشاء هذه الدولة للجميع أصلا ً ولا تخفي أن هذا الفضل لا ينبغي أن يغيب عن صورة الدولة في حاضرها وفي مستقبلها.. واذا كانت "الحركات" هي ما تخجل الطوائف من اعتباره أصلا في مسلكها التاريخي لأن "الحركات" هي نقض الدولة ولأن اختيار تأصيلها في الذات هو اختيار الوحشة، فان أيا ً من الطوائف لا يسعها موالاة فخر الدين - الدولة بصفته رقعة متوسطة فارغة. وانما تواليه كل منها بقدر ما يسعها تمثله. فتلحقه بها بقدر ما تلتحق هي به. وهي لا تبغي من ذلك أن ترده الى ذاتها (والا بادت الدولة) ولا ترضى من الجهة الأخرى أن تستغرق الدولة حياتها الداخلية برمتها (والا بادت الطائفة). على هذا الحبل المشدود ترتع الكائنات المتناقضة المسماة طوائف سياسية. واذا كانت الدولة ترتع في خجل الطوائف ، فان مؤدى الطائفية السياسية هو ألا تفلح الطوائف في غض الطرف لحظة عن هذا الحيز الذي تركته للدولة. لذا نرى حيز الخجل محاصرا ً ونرى أطرافه تتقلص أو تتمدد في حركة لا بد لادراك منطقها من جهد المؤرخ.. المؤرخ للصراعات على الدولة لا المؤرخ للصراعات على تاريخها.

كيمياء الموقف الشيعي

لا غرو أن الذين يتنازعون (أو تتنازع ظلالهم) دولة فخر الدين هم الذين يملكون اليها مداخل مشرعة. وان من الأدلة على سعي ظلال الطوائف الى الانبساط على حيز الدولة أن الذين لا يجدون مداخلهم الى دولة فخر الدين كافية الاتساع أو مكانتهم فيها كافية الرسوخ، يعزفون عن الخوض في الصراع ويعلنون أن بغيتهم دولة أخرى! .. ومن أدلة التلازم بين أسطورة الأمير - الدولة وواقع الدولة اللبنانية المعاصرة أن من يقعون على عيب بنيوي أصيل في الدولة المعاصرة لا يلبثون أن يجبهوا بنقمتهم دولة أوائل القرن السابع عشر مقترحين تعديلات بنيوية أيضا ً لصورتها التاريخية الممتازة.

أما الذين يسيطرون على المداخل فعرفناهم . وذلك ان الأمير هو اما سني "لا جدال" و"لا لبس" في اسلامه واما درزي بشهادة المحبي وآخرين وأمير الدروز، على أي حال، واما ماروني بالروح ضوى الى لبنانية مارونية الأصل وانتهى الى اعتناق الكاثوليكية.. والأمير، بالطبع، أمير الشوف (الدرزي) وأمير صيدا وبيروت (المسلمين) وقد لحق به باكرا ً الجبل الماروني: كسروان الذي رباه والجبل الشمالي .. بل انه هو الذي خلصهما من طغيان ابن سيفا. وهو الذي خول الموارنة أن ينتشروا الى الجنوب من نهر الكلب حتى أقاصي جبل عاملة، عبر المعقل الشوفي نفسه. في هذا كله .. وفي صور الدولة المنبثقة منه يجد قرألي وضو والنقاش وجنبلاط وأبو صالح، الخ .. "حقوقا ً" تستحق أن يدافع عنها وأن يسعى الى تغليبها .. خاصة بعد أن لم يعد المسلم - العروبي يكتفي بالضرورة بوضع التاريخ العربي أو الاسلام "العام" في مواجهة تاريخ الجبل بغية "اغراق" الأخير في الأول .. بل أخذ يكترث لمضمون تاريخ الجبل، معتبرا ً اياه "وحدة" ذات الاستقلال ما، تستحق - عوض الاعراض والاغراق - أن تعرب شبرا ً شبرا ً، اذا صحت العبارة.

ولكن ما هي حال الشيعي الذي يجد نفسه، في أوائل السبعينات - وقبل ذلك بعقود عديدة طبعا ً، وان ببعض التردد - خارجا ً من حالة الاعراض والاغراق هذه الى حالة الرغبة - المصدودة أبدا ً - في الدولة المعاصرة . سيبحث، ولا ريب، عند فخر الدين عن سوابق الصد، وسيكون العثور عليها هناك دليله على عمق التغيير الذي ينبغي على الحاضر أن يستقبله. ثم ما هي حال الماروني الذي يستعيد - وسط الحرب الأهلية - شكا ً حمله قسم من الموارنة في جدوى تكبير لبنان الى الحد الذي كبر اليه سنة 1920 ، واستعاده ميشال شبلي ذات مرة بصدد امارة فخر الدين؟! سيبدي الشك، مرة أخرى، في أن يكون الأمير قد "وحد" حين "وسع". أخيرا ً ما هي حال المحلل المقيم في هذا الهامش الرجراج الذي تتركه للعلم أساطير الطوائف؟ سنراه يؤرخ الولادات المتأخرة لمفاهيم تنسب الأسطورة الى فخر الدين تحقيقها في الواقع ويؤرخ بالتالي لتفاوتات استمرت بعد الأمير تنسب الأسطورة اليه تجاوزها. تلك هي المخارج التي وقعنا على من سلكها ليدير ظهره لأسطورة فخر الدين وهي ليست المخارج المتاحة حصرا ً على وجه الضرورة.

لم يكن يندر أن يتعثر الآخذون بصورة فخر الدين "التقليدية" (تلك التي استخرجنا معالمها من نص جوبلان) بأمور منسوبة الى الأمير تخالف تلك الصورة، بل تؤيد وجود "صفات" عند الأمير درجوا هم على نسبتها الى أعدائه: الهدم واباحة البلد المفتوح من هياكل بعلبك الى مدينة طرابلس، الخ ، التنكر لحقوق الصحبة والعشرة، حينما قتل بيده الحاج كيوانا ً مدبره ورفيق دربه، ارهاق الرعية بالفرائض في السنوات الأخيرة من حكمه بخاصة، الخ، الخ .. هذا الى محاباته طائفة ومناهضته غيرها والى اتجاهه نحو التفريط الكامل ب "الاستقلال" في مفاوضاته لاستدراج حملة أوروبية الى المشرق. ولكن المؤرخين المذكورين كانوا يتجاوزون هذه الأمور بنسبتها الى "عادات ذلك الزمن" أو باعتبارها هنات لا بد منها في بنيان شخصية عظيمة، أو باعتبار بعضها غير جدير بالذكر وتبرير بعضها الآخر بشراسة الخصوم وطبائعهم الشريرة، الخ ..

يرتئي علي الزين أن يحرم فخر الدين من هذه الأسباب المخففة. بل هو يذهب الى جعل ما تنم عنه الوقائع الآنفة الذكر سمات عامة طبعت سيرة الأمير السياسية. فحديث الأمير عند هذا المؤرخ يؤطره سؤال عام: "خذ مثلا ً(...) الأمير فخر الدين المعني ألمع شخصية في تاريخ لبنان السياسي، وابحث عن حقيقة أهدافه وحقيقة سياسته الداخلية والخارجية، ثم عن حقيقة بطولته في كبرى الحوادث، هل تجد فيها ما ينعش الروح القومية ويعزز الوحدة الوطنية ويوجب الالفة والمحبة بين الطوائف والأحزاب المختلفة النزعات ؟؟ " لا يتردد الزين في الاجابة بالنفي .. واذا نحن عرضنا لأساليب فخر الدين في السياسة والحرب قبل تناول أهدافه، وقعنا، عند الزين على صور قاتمة. ثمة الرشوة والخديعة والعمالة للأوروبيين التي أثمرت، بدورها، مالا ً وسلاحا ً وخبراء. ونصيب البطولة وتأليف القلوب من هذه الأساليب أهزل بكثير مما توهمه آخرون أو أوهموا به. ذلك كله بصدد سيطرة الأمير على جبل عامل أولا ً ولكن بصدد أحداث أخرى أيضا ً. احتل الأمير قلعة الشقيف بالخدعة وبالخدعة احتل قلعة بانياس. وكان انتصار عنجر نفسه "أشبه بفصول تمثيلية منه بحوادث حرب جدية لم يشبها شائبة من المكر والخيانة". أما الرشوة فحدث عنها ولا حرج. وهي متداخلة مع العمالة، في رأي الزين، منذ عهد باكر. اذ كيف استقوى الأمير على "جدب الشوف ونكبة أهاليه" سنة 1584 "وتمكن بهذه السرعة الخارقة أن يوفر الأموال الطائلة التي مكنته من شراء كل شيء بالمال حتى الوزراء والباشوات والسناجق (...) كيف تمكن من هذا كله دون أن يكون على صلة متينة بدول أوروبا؟ ودون أن تكون دول أوروبا قد بدأت تمده بالمال والسلاح، والقادة والخبراء من أول عهده بالحكم تنفيذا ً للخطط المرسومة لاستئناف الحملات الصليبية على الأراضي المقدسة؟؟" وما دام الاستيلاء على جبل عامل هو محور الجدال فان الروايات المتصلة بهذا الحدث "تنص - على ما يرى الزين - وتؤكد على أن المال والرشوة والخديعة كانت من أهم الأسباب والوسائل التي مكنت فخر الدين من الاستيلاء على صيدا وغيرها من المناطق والأقاليم العاملية ". هذا عن الوسائل.

والأهداف مجانسة لها. فلا ظل هنا لحديث المؤاخاة الطائفية ولا لاعتبار توسيع الامارة توحيدا ً وطنيا ً. ثم انه لا ظل لحديث السعي الى الاستقلال الوطني.. يتخذ الزين من قرألي هدفا ً لحملته ويبدل واحدا ً واحدا ً ملامح صورة فخر الدين المتناقلة. فحيث يعلق قرألي على اسكان فخر الدين الموارنة في المتن والغرب والشوف والساحل وعكار والمرتفعات الشرقية من جبل عامل والبقاع قائلا ً ان الأمير استعان "بالموارنة على التوسع والتوطيد، واستعانوا به على انشاء وطن قومي لهم في لبنان" يرد الزين مؤكدا ً ان هذه "الاجراءات الكيفية والسياسية المتحيزة التي كان يعمل فخر الدين على تطبيقها وتحقيقها" لا توطد "الالفة والمحبة بين أبناء الوطن الواحد" بل تمهد "لدى اضطراب الأوضاع العامة" لتحويل "التذمر والقلق" الى "تحد وانفجار".. ولا يتردد الزين هنا في المماثلة بين شأنين سبق أن أشرنا الى وجود قيمتين متعاكستين لهما في منظور التاريخ "الجبلي" (الماروني أولا ً) وما تفرع عنه، وبخاصة في منظور "خجل الطوائف" أو مقام الدولة الراهنة. هذان الشأنان هما سياسة فخر الدين الداخلية وأسباب "الحركات". هكذا يتاح لنا أن نقرأ ان "حركات" القرن التاسع عشر حصلت "من جراء السياسة المشابهة لسياسة فخر الدين في تغليب فئة على فئة وايثار طائفة - من أهالي البلاد - على طائفة" . وهكذا تختفي اللعنة التي كانت تحف عادة بأعداء فخر الدين في نصوص مؤرخينا المعاصرين، فان معركة عنجر لم تكن ضد العثمانيين.. بل كانت معركة أهلية بين الحرافشة والسيفلية من جهة والمعنين والشهابيين من الجهة الأخرى. لذا لا يعد الانتصار فيها انتصارا ً وطنيا ً، خاصة وان له "أهدا فا ً استعمارية " (صليبية) وأخرى "رجعية"، ("انشاء قومية مارونية").

و"الحملة الصليبية" و"القومية المارونية" هما بيتا القصيد في تقويم مؤرخنا العام لفخر الدين. وهو يقدمهما متلازمين. فقد "انضم النصارى في لبنان وسوريا وفلسطين الى الدروز (تحت راية الأمير المعني) امتثالا ً لرغبة قداسة البابا وتحقيقا ً للأهداف التي رسمها عواهل أوروبا لاحتلال الأراضي المقدسة". هذا التلازم بين وجهين للآخر الخطر (خطر الأجنبي النازع الى "الاستعمار " وخطر الطائفة النازعة، في المساق نفسه، الى الغلبة) يفضي دفعة واحدة الى نسف الشرعية التي تدعى عادة "للدولة" المعنية من وجهيها: الوجه الداخلي ، أي تمثيل هوية مفارقة لهويات الداخل المغلقة، والوجه الخارجي أي الاستقلال عن التبعية للأجنبي.. وهو، أي التلازم، مدخل الزين الى تحليل العلاقة بين اقليمه، جبل عامل، و"الدولة" المعنية.

يعمد مؤرخنا، بادىء ذي بدء - رادا ً بهذا دعوى أخرى لقرألي - الى اقامة البرهان على أن المعنيين لم يحكموا جبل عامل قبل فخر الدين الثاني. فيرفع بذلك صفة "البدئية" عن هذا الحكم اذ يستبعد اقتران بدايته ببداية أخرى ذات وقع تاريخي قاطع هي حدث الفتح العثماني لبلاد الشام. وفي هذا ما فيه من تقليص لشرعية السيطرة المعنية على الجبل. ثم يعدد ظروف هذه السيطرة أيام فخر الدين، وكلها من الزاوية التي يقف فيها المؤرخ - ذات قيمة سلبية: نقمة الدولة العثمانية على الشيعة، آنذاك "لمبالغة شيعة ايران والعراق في مضايقتها سياسيا ً وعسكريا ً"، مساندة الدول الغربية والكرسي الرسولي لفخر الدين، رشوات فخر الدين للوزراء والولاة، تسهيلا ً لسيطرته على السنجقيات والمقاطعات، ولقطافه رؤوس منافسيه (ابن الفروخ، ابن الحرفوش...). ولنضف أن الزين، وهو شديد الانتباه عادة الى تمايز الفئات داخل طائفته، لا يرى مجالا ً، ها هنا للتمييز مثلا ً بين أعوام مقهورين واقطاعيين رفع الأمير عبء جورهم عن الناس. بل تعود الجماعة العاملية - في عين المؤرخ - كتلة واحدة يقع عليها قهر خارجي كليا ً، هو، في نهاية المطاف، قهر جماعة أخرى. وقد رأينا، قبل قليل، تعليق الزين على انتشار الموارنة، تحت رعاية فخر الدين، في أقاليم عديدة بينها جبل عامل. فلا يعد توحيدا ً، في نظر المؤرخ الشيعي، نخر التجانس الطائفي في اقليمه وكسر تماسكه عن طريق انشاء نوع من المستعمرات فيه يحميها المنتصر الدخيل.. ولا يتردد هذا المؤرخ في مد أنموذج الأثرة الطائفية الذي تجسده "دولة" فخر الدين، على جملة الحقب التي يكتب تاريخها. فهو يكتب صراحة أن اللبنانيين لا يجدون في "تاريخهم السياسي الحديث ابتداء من عهد الأمير فخر الدين المعني الثاني الى اخر عهد الأمير بشير شهاب الثاني" ما يلم شمل الجميع على اختلاف أحزابهم وطوائفهم ومناطقهم ".

يصدر هذا الحكم، بقسوته النادرة، من مؤرخ لا هو ب "العثماني"، بحيث تغيظه كل بادرة خروج على طاعة الدولة العلية ولا هو بالمدعي لطائفته ولاقليمه أهلية للتشكل في دولة، معتمدا ً في ادعائه على سابقة تاريخية أو أكثر. لا يريد الزين لجماعته الدولة التي عرفتها في تاريخها الحديث ولا يريد دولة لها وحدها. نراه يرفض مثلا ً تصديق "بعض المؤرخين" حيث يشيرون الى فرصة الانفصال الوحيدة عن الدولة العثمانية، التي قد يصح القول انها عرضت للمتاولة (وهي فرصة التحالف بين ظاهر العمر وناصيف النصار) ، فيقول ان ثورتهم ما كانت الا لتعزيزالنفوذ وبسط السلطان .. ولم تكن للانفصال عن الدولة أو الانضمام الى غيرها من الدول المعادية. لا انفصال اذن بل تعزيز للموقع. بينما ينحو التأريخ الماروني الى اعتبار كل عصيان على الدولة الاسلامية نزوعا ً كامنا ً أو معلنا ً الى استقلال لبناني، ويعتبر صفات الجماعة المارونية وعلاقاتها الداخلية والخارجية ومآتيها في المقاومة - خرافيا ً كان تصوير هذه الأمور كلها أو واقعيا ً - أدلة متضافرة على جدارة اللبنانيين - أو الموارنة نيابة عنهم - بنيل الاستقلال، يسارع مؤرخ شيعي الى تفويت الفرصة لاعلان مماثل. بل هو، اذ يثبت العلاقة بين استقلال التاريخ واستقلال الدولة، ينفي أن يكون لجبل عامل "تاريخ مستقل مفصل".. ثم يعلن، بعد استعادة هذا الرأي في موضع آخر، اقتصار دعواه على أن العامليين "استطاعوا في بعض المناسبات أن يحتفظوا بمقاطعتهم مستقلة أو شبه مستقلة لها ما للمقاطعات التابعة للايالة (...) وعليها ما عليها (...) لا دولة عاملية اذن، لا تاريخ مستقلا ً ولا "وضع خاصا ً".

ما الذي يريده الزين اذن؟ نراه، أولا ً، مؤرخ جماعة طائفية، يحمل على محمل الجد علاقاتها الداخلية ويواجه الخارج من حيث تتصل هي بالخارج. ولكن الدولة ليست خارج أفقه. ففي نصوصه التي استعدناها لتونا يتبدى مثالان للطائفة وللدولة، يقول المؤرخ ان تاريخنا الحديث لم يحقق شيئا ً منهما. على الدولة أن تكون موجودا ً بذاته غير تابع لغلبة طائفة ولا قائم على أثرتها. لكن شرط اللاتبعية هذه هو أن توصل كل طائفة استقلالها الذاتي الى حالة بلورة تامة وأن تنضم الى الدولة حرة من أي قيد غير ما تختاره هي. من البين أن في هذا ما يشير (ما دامت "السيادة " هي شرط وجود الدولة) الى النزوع نحو تحقيق سيادتين، تكون سيادة الطوائف، وهي احداهما، سبيلا ً يبعد الدولة - مبدئيا ً - عن التحول الى مكان نزاع دائم ويحقق سيادتها، وهي الثانية. هكذا يتولى الغاء الغلبة في المجتمع الأهلي - أي ارساء سيادات منفصلة في داخله - حجب الدولة عن نزاع على الغلبة لم يعد له وجود. لا ريب في أن الزين يمج استيلاء فخر الدين ( بمن شايعه من قوى طائفية) على بلاد المتاولة . ولكنه لا يدير ظهره للدولة اللبنانية الحاضرة الا بقدر ما تعتمد هذه الأخيرة لعلاقتها بجبل عامل نموذج القهر المعني. فنسمعه يقول معلنا ً برنامج أبحاثه: "بذلت الجهد (...) توضيحا ً لماضينا السياسي وتحديدا ً لمحلنا (نحن العامليين والمتاولة) من الشعب اللبناني ". أما "الماضي" فهو ماضي جماعة استحقت به - في نظر علي الزين - أن تقف على قدم المساواة مع الآخر (بخاصة مع الآخر اللبناني) الذي واجهته. وأما المحل المرتجى فيحمل معه هذه المساواة الى قلب الدولة اللبنانية، حتى لا تعود "دولة الآخر" (وان بقيت هي "الآخر المفارق" للجماعات) وحتى لا يعود علي الزين ابنها الغريب. هذه الوجهة (وحلمها الراهن هو الملاءمة العسيرة بين الاندماج في الدولة والاستقلال عنها) هي التي تسوغ لمؤرخ المتاولة أن يمعن تغييرا ً في ملامح تلك الصورة المألوفة التي تداولها لفخر الدين صف طويل من مؤرخي لبنان المحدثين.

انكماش ماروني

لم يعد ثمة الكثير نضيفه للاحاطة بنظرة كل من هارون والصليبي الى فخر الدين. فثمة أمور ذات أهمية يشتركان فيها والزين. ومدار هذه الأمور رفض اعتبار فخر الدين "موحد الطوائف والمناطق، وبالتالي باني "الوطن" اللبناني. بل انهما يتفقان على أن هذا الوطن لم يكن له وجود أيام فخر الدين، وينطلقان من هنا الى الشك في تحقق مفهوم الدولة (أي الدائرة التي يتم فيها تمثيل وحدة المجتمع وضبط تناقضاته) على يدي الأمير. يبدو هذا الشك منتظما ً عند جورج هارون، متخذا ً له هدفا ً مركزبا ً صورة الأمير التي رسمها لنا قرألي (وهي التي كانت هدفا ً لنقد الزين أيضا ً) محيطا ً بسائر عناصر الصورة المذكورة. ويعتمد أسلوب هذا الكاتب في تحويل صورة الأمير على ادخال نثر الضرورة والمصلحة حيث وجد قرألي خطابة "الوحدة" و"الوطن"، الخ .. ولما كانت الغاية هي أولا ً دحض اعتبار فخر الدين مؤسسا ً للبنان الكبير- وتاليا ً دحض اعتباره مؤسسا ً لأي "وطن" كان - فقد لجأ الكاتب الى ادخال السنة والشيعة (ومناطقهم) في تساؤله عن حقيقة هذا "الوطن" ، ليجد ان مكانهم لم يكن مكان الدروز والموارنة لا من حيث علاقاتهم بهؤلاء وموقف الأمير منهم، ولا من حيث صيغة دخولهم تحت حكم الأمير ولا من حيث دورهم في أجهزة سلطته. فيبرز أن الأمير لم يحقق "وحدة الأرض" اذ تجاوزت فتوحاته كثيرا ً لبنان 1920 ولبنان الفينيقيين وانبسطت على "مئات الألوف من الكيلومترات". ثم انه "كان ينظر اليه في كل منطقة بطريقة مختلفة عنها في المناطق الأخرى".. فحكمه "تقليدي وراثي" في الشوف .. أما في سائر المناطق الدرزية، فليس لهذا الحكم صفة الوراثة ولكن للأمير "الصفة الرسمية وزعامته للدروز القيسيين" .. وهو قد ربط به (من بين المقاطعات المسيحية) مقاطعة كسروان ربطا ً وثيقا ً ولكنه بدا في كل ما عداها شمالا ً "أعجز من أن يربط هذه المناطق بالمقاطعات الدرزية الجنوبية". وأما في المناطق غير الدرزية ولا المارونية، فلم تكن "تعدو سيطرته النطاق العسكري والأمني". في هذا النطاق الأخير تنحصر سيطرة الأمير على السنة والشيعة الذين "شنها فخر الدين حربا ً" عليهم. ثم ان "أبناء المقاطعات والمدن السنية الساحلية وسكان معظم منطقة القاع الشيعة وقفوا من "امارة" فخر الدين الثاني موقف الشيخ بشير جنبلاط والدروز من الأمير بشير الثاني الكبير، وبالأخص في أواخر عهد هذا الأخير أو موقف المحمديين من "لبنان الكبير" قبيل عهد الاستقلال، فلم يعرف عنهم سوى التنكر للكيان والسلبية والمعارضة (...)" لا صيغة الارتباط هي نفسها اذن ولا الولاء هو نفسه. أما عن اختلاف الأدوار في أجهزة السلطة الأميرية، فيكفي بصدده مثل الجيش الذي كان "يؤلف الموارنة والدروز أكثريته الساحقة فلم يكن فيه للشيعة سوى فرقتين وللسنين سوى نفر من الضباط. "وكان لهذا التحيز الطائفي نتائج بديهية، بينها التفسخ العسكري في المعارك التي خاضها الأمير".

ما هي حوافز سياسة فخر الدين، ما دام الكاتب ينكر واحدا ً واحدا ً تلك التي ينسبها الى الأمير معظم مؤرخينا المعاصرين؟ ثمة ببساطة - أو ان شئنا بلغة النثر - الرغبة في التوسع على حساب الدولة العثمانية، "هاجس" الأمير "الأوحد". هذه الرغبة (التي تكوكبت على حواشيها وعضدتها مصالح أطراف مختلفين، كما سنرى، وصدمتها مصالح أخرى) لا تثير من جانب هارون، على عكس ما قد ينتظر من ماروني، مذهبا ً أو سياسة، الا الاشمئزاز. فالأمير هو "الرجل المعروف بتعصبه الديني كدرزي وتعصبه العائلي كمعني". ولكنه تجاوز هذا التعصب فاستعان بالنصارى، وضحى أيضا ً "من أجل اشباع شهوته الى التوسع (...) بالقواعد الأخلاقية والمناقب الانسانية عينها"، فكان مداهنا ً، مرائيا ً، كذابا ً، متقلبا ً .. بل ان ادعاءه (لكسب ود فرنسا) تحدر الدروز من الصليبيين وتحدره هو من غودفروا دوبويون يوصل الكاتب الى اتهامه ب "الصفاقة ". وحينما يذكر هارون كيف كان الأمير يتوسع ويثري على حساب جيرانه ويتآمر سرا ً على الدولة العثمانية ويزود أمراء الغرب بالمعلومات عن أسطولها ومراكبها التجارية ليضربوها، ثم يصانع الولاة والوزراء من الجهة الأخرى ويورد الأموال الأميرية في وقتها، وأحيانا ً سلفا ً، نكاد نجد هذا المؤرخ أقرب بكثير الى العطف على الدولة العثمانية من الشيخ الشيعي علي الزين.

أما تقريب الموارنة والاعتماد عليهم، فيشدد عليه هارون شأن الزين أيضا ً. ولكنه يزيل عنه ألق "الوحد الوطنية" ليفسره بمصالح حكمت سلوك الطرفين غير بعيدة عن الانتهازية. فان ثمن التعايش "كان استغلال الأرض والتوجب بدفع ضرائب معينة للأسياد الدروز وتأديه الخدمات لهؤلاء والخضوع لهم".

"وكانت النتيجة أن أفاد الموارنة من النزاع والتنافس بين العائلات (...) الدرزية الوجيهة والحاكمة، فقويت شوكتهم وتضاعف عددهم، بحيث أمسوا يشكلون منافسة للملاكين والنافذين الدروز (...)". ولو ان الأمر اقتصر على التنافس "الاقتصادي" لهان . لكن هارون يجد أصل النزاع الطائفي (شأن علي الزين مرة أخرى) حيث وجد آخرون أصل الوحدة الوطنية. فان نزول الموارنة في مقاطعات الدروز هو، عنده، بدء مشكلة "المقاطعات المختلطة". "وهكذا فان التعايش الماروني في مناطق الشوف والجنوب الدرزية لم يدم طويلا ً، فقد طغى فيها العامل الديني على الاقتصادي حتى حجبه بالكلية، وقد كانت هذه الأماكن مسرحا ً للحرب الأهلية بين الطائفتين فيما بعد (...)"

كانت هذه هي المصالح المتبادلة بين الأمير والموارنة. وقد وعى الموارنة أهميتها في تغيير وضعهم حتى النهاية. فعندما حاق بلأمير "خطر السقوط لم يتخل عنه (...) السنة والشيعة فحسب بل الدروز أنفسهم، ولم يصمد معه سوى الموارنة حتى آخر مقاتل منهم ". وأما الأمير فكان قد وجد فيهم منذ وصوله الى السلطة "الطائفة الوحيدة الموالية والقادرة بعد انهيار الدروز" سنة 1584، وذلك بمواجهة "خصم الطرفين" يوسف باشا سيفا .. ولكن الدروز والموارنة لم يتجهوا نحو تشكيل "أمة"، حتى في أيام فخر الدين، وبقيت كل من الطائفتين وليدة تاريخ منفصل. كان الأمير وحده نقطة لقاء شبه هندسية، ان جازت العبارة (أي أنها تكاد تكون بلا مساحة) ما بين الطائفتين. اذ "كان الكل في خدمته من أجل خدمة كل فريق لذاته". أي أن الوحدة كانت وحدة السلطة وحدها. لم تكن الدولة "تمثل" وحدة المجتمع، بقدر ما تضمن عدم انشطاره .. كانت هي وحدة المجتمع الوحيدة. يتيح هذا لهارون أن يكتب ان الأمير لم يكن يحمل "صورة واضحة عما يجب أن تكون عليه حدود وطنه، ولا أية فكرة عن "وطن" ينبغي أن يعمل له ولا عن فكرة "الوطن" نفسها". هذا بعد أن يؤكد أن الأمير لم يكن يعي الفوارق بين أشكال الحكم التي مارسها ولا بين الولاءات المختلفة، وانه "لم تكن له أية صورة عن "الدولة" بالمعنى الحديث للفظة (...)". فكان طبيعيا ً والحالة هذه أن تنهار "دولة" فخر الدين مع سقوطه.

ما هو المؤدى الراهن لهذا الهجوم المدمر على "صورة" فخر الدين أو على أسطورته؟ يبدو الهجوم على أسطورة التأسيس هجوما ً راهنا ً على استمرار ما أسسته . كان نقد علي الزين لسيرة الأمير يتجاوب في بيئة نقد شيعي للدولة الحاضرة ذي منحى انضوائي. لتكن هذه الدولة - يقول علي الزين أو موسى الصدر - دولة الشراكة المنصفة ما بين الطوائف "المستقلة"، فتصير لها وحدة "مفارقة" للطوائف. أما هارون فهو - في غمار الحرب الأهلية - يشن الغارة على فخر الدين في اتجاه "انفصالي". وليس علينا أن "نستنتج" هذا الاتجاه ، فهو معلن في النص. بعد أن يشير هارون الى أن الذين "نسبوا الى ألأمير المعني حكاية تأسيسه للبنان الحديث "كانوا من المسيحيين القائلين بالقومية اللبنانية وأن هدفهم كان تبرير "الكيان اللبناني الحالي" في وجه دعوتي الوحدة السورية والوحدة العربية وبعد أن يؤكد أن المسلمين ما كانوا ليباركوا هذا "الفصل" لقطعة من الأرض العربية في كيان مستقل، يخلص الى الحكم التالي: "هؤلاء القائلون بفخر الدين لا يخلو حماسهم له من الروح الرومنطيقية، وذلك بقدر ما كان الأمير ذلك الرجل الفاتح، بقدر ما عمل لايقاف أجيال من الاضطهاد بحق المسيحيين وما قام به في تمكين هؤلاء من التوسع جغرافيا ً، وانصافا ً أيضا ً بقدر حبهم للبنان الحالي". ولكنه لا يلبث أن يتبع هذا الحكم العطوف بالسؤال الحاسم: "هل ما يزال "لبنان الكبير" يشكل ، بنظر االقوميين اللبنانيين، هذا "الضمان" المسيحيين؟ وهل ثمة من حاجة بعد الى حوك الأسطورة الفخر الدينية؟".

النقد مكانه الهامش

كان كمال الصليبي هو الأسبق منذ سنة 1970 الى تأكيد ان "الفكرة اللبنانية" لم تخطر لفخر الدين ببال .. وكان هو الذي أبرز أن "أسطورة" فخر الدين نمت مع نمو الكيان اللبناني الذي لم يظهر "بشكل واضح"، في رأي هذا المؤرخ الا منذ عهد بشير الثاني. فلكمال الصليبي دين كبير في عنق جورج هارون وأمثاله (لا نستطيع أن نرجح الأمر نفسه في حالة علي الزين). ولكن ثمة اختلافات .. من أبرزها أن الصليبي وان كان يرفض أن ينسب "الفكرة" اللبنانية الى فخر الدين يؤكد "أن هذا الأمير وضع حجر الأساس للكيان اللبناني الذي قام من بعده. وهذا الكيان هو بدوره أساس الفكرة اللبنانية التي تصورها الأسطورة التي نمت حول اسم فخر الدين خير تصوير". كان فخر الدين اذن لحظة من مساق تاريخي متقطع يحصي المؤرخ بعض محطاته: أحمد المعني، بشير الشهابي. الخ.. ولكنه - وهذا ما يخالف "الأسطورة" مخالفة جوهرية - لم يملك وعيا ً ولا ارادة لهذا المساق. على أن اسطورة فخر الدين (وهذا اختلاف آخر ما بين الصليبي وهارون) ليست حكاية مطعونا ً في فائدتها.. بل هي "بالفعل أبلغ من الواقع. اذ ان تاريخ لبنان الحديث يبدأ بعهد فخر الدين، عندما دخلت البلاد اللبنانية للمرة الأولى تحت حكم محلي واحد".. وضعت الأسطورة للمفهوم تاريخ ميلاد أقدم بالضرورة من تاريخ ولادته الفعلية وأخرجته من عبقرية بطلها شاكي السلاح . أما المؤرخ - الناقد فيرصد الولادة ويتابع النمو في تعثره وتقطعه. لكنه لا ينكر فضل الأسطورة. فان كمال البطل وكمال المفهوم، من اللحظة الأولى، حاجة ملحة للدولة التي تطمح الى أن تجد في أصلها كمالا ً تستعيده (تعيد تجسيد لا تاريخيته) وليس نقصا ً تواجه، كل لحظة، خطر التردي في وهاده. هذا الكمال (كمال الأسطورة) هو وحده الذي يجعلها بمنجاة من اعادة النظر اذ تنسى به انتماءها الى حيز الامكان (لا الضرورة) وتعلق ولادتها ونموها بشروط عرضة للانقضاء أو - في الأقل - للاضطراب. لذا كان يصعب ألا يقع نقد الصليبي "العلمي" على مفصل من الواقع التاريخي. هل كانت الدولة اللبنانية سنة 1970 قد صارت وطيدة الى حد يسمح لها بالاستغناء عن أسطورتها؟ أم ان الخلل كان قد تفشى في جسم الدولة نفسها الى حد أتاح للخلل الانتقال الى الأسطورة؟ تبدو الاجابة صعبة ما لم يفض اليها تحليل صعب هو الآخر ومتشابك. ولكن المؤكد هو أن "نقد" الصليبي بقي ضئيل الوقع الى أن استعادته الحرب الأهلية بلسان جورج هارون. لذا أبقيناه الى الختام، متجاوزين أسبقيته الزمنية. ولقد كنا عرضنا لتنازع المؤرخين فخر الدين مرآة ً صقيلة (هي مرآة الدولة) تتجاوز بوحدة صفحتها نزاع المؤرخين وما يحفزها من انقسامات المجتمع اللبناني المعاصر.. فكان لا بد أن نعرض بعد ذلك لمن كسر المرآة (هارون) ولمن اعتبرها مكسورة أصلا ً (الزين) .. ثم أخيرا ً لمن اعتبر مرآة الدولة صورة موهومة في مر
آة الأسطورة: وهما ً في وهم اذن. تلك حقيقة الدولة.
Sun Jul 15, 2018 3:18 pm View user's profile Send private message Send e-mail Visit poster's website
Display posts from previous:    
Reply to topic     discoverlebanon.com Forum Index » لبنان ... باللغة العربية
   
Page 1 of 1

 
Jump to: 


 
 
  Panoramic Views | Photos | Ecards | Posters | Map | Directory | Weather | White Pages | Recipes | Lebanon News | Eco Tourism
Phone & Dine | Deals | Hotel Reservation | Events | Movies | Chat |
Wallpapers | Shopping | Forums | TV and Radio | Presentation


Copyright DiscoverLebanon 97 - 2020. All Rights Reserved

Advertise | Terms of use | Credits